المذاهب الإسلامية وتطورها التاريخي
کان الاختلاف في الرأي والاجتهاد قائمًا في عهد الصحابة الكرام – رضوان الله عليهم – بعد عصر النبوة، إذ نشأت مدارس اجتهادية نتيجة تفرق أصحاب رسول الله في البلاد يحملون ما أخذوه من العلم ، فسئلوا فأجاب كل واحد حسب ما حفظه
واستنبطه .
وإزاء اختلاف آراء الصحابة – رضي الله عنهم- وجدت أفكار مختلفة أيضًا للتابعين ، ووجد في كل بلد إمام مجتهد : مثل سعيد بن المسيَّب في المدينة المنورة، وعطاء بن أبي رباح في مكة، والشَّغبي في الكوفة ،
والحسن البصري وجابر بن زيد في البصرة، وطاووس في اليمن، وغيرهم ….
واختلف الفقهاء المجتهدون من بعدهم ، فمنهم من أخذ بالرأي ، ومنهم من أخذ بالرواية (الحديث)، فقامت على هذه الأصول المدارس الفقهية أو المذاهب الفقهية المتعددة . فما أهمية الاختلاف في الأمة الإسلامية؟ وما المذاهب الإسلامية التي تولدت عن الاجتهادات الفقهية ؟
الاختلاف وأهميته
جبل الناس على الاختلاف ، بل إن وجوده ضروري ونفعي ، يستفاد منه للتدليل على صحة المجتمع وسلامته واستقراره .
لا شك أن الاختلاف في وجهات النظر وتقدير الأشياء والحكم عليها أمر فطري طبيعي، له علاقة بالفروق الفردية إلى حد بعيد، إذ يستحيل بناء الحياة وقيام شبكة العلاقات الاجتماعية بين الناس أصحاب القدرات الواحدة والنمطية الواحدة ، ذلك أن الأعمال الذهنية والعملية تتطلب مهارات متفاوتة ، وكأن حكمة الله تعالى اقتضت أن يكون بين الناس بفروقهم الفردية
سواء أكانت خلقية أم مكتسبة بين الأعمال في الحياة تباعدًا والتقاءً، وكل ميسر لما خلق له، وعلى ذلك فالناس مختلفون .
آداب الاختلاف
تنقسم هذه الآداب إلى ثلاثة أقسام :
أولاً : الآداب الأخلاقية
توجد مجموعة من الضوابط الأخلاقية التي لا بد من مراعاتها وهي:
١) الاحترام: ويعدُّ من الأولويات الأخلاقية في التعامل، وهو ليس مرتبط بحالة الاختلاف فقط، وإنما هو من حقوق المسلم على أخيه .
٢) حسن الظن: إن محاكمة النيّات جزافًا من خلال مقدمات أو مسلَّمات معيّنة من أخطر الأمراض التي تسبب الخلاف والتشرذم، لذلك فإنه لا بد من إحسان الظن بالآخر وتجنب الرجم بالغيب،
فقد رفض الرسول سوء ظن أحد الصحابة برجل قال لا إله إلا الله أنه قالها خوفًا. فرد عليه الرسول” أفلا شققت عن قلبه حتى تعلم أقالها أم لا” *.
٣) عدم الغيبة: أي الابتعاد عن تناول شخصية الآخرين بنوع من التجريح لا لشيء سوى أنهم مختلفون في الموقف والرأي!
٤) عدم تصيُّد الأخطاء: ويقصد بذلك عدم محاولة الانتصار على الآخر بحيث نلج إلى أعماقه ومكتوماته وننقب في تاريخه ونتتبع عثراته ثم ننشرها سواء كان شخصًا أو جهة أو فكرة نرفضها.
ومن الطبيعي أن الاحتكاك والعمل يولدان بعض الأخطاء، ولا يمكن أن يدَّعي أحدنا العصمة من الخطأ، ومن اللازم مساعدة الآخر على تجاوز أخطائه ومحاولة سدِّها.
ثانيًا: الآداب العلمية
كثيراً ما يحكم أحدنا بعدم صلاحية الآخر ويرشقه بالتهم والسباب دون أن يطلع على رأيه وفكره، ومن المعلوم أنه للحكم على أي قضية أو رأي لا بد:
١- من معرفة هذه المفردة أو القضية بكل جزئياتها وحيثياتها، وهذا إنما يتأتى بعد القراءة الدقيقة والتامة لتلك القضية المراد الحكم عليها.
٢- القدرة على المحاكمة أو إبداء الرأي إذ إن الكثير من الاختلافات يأخذ سبيله السيئ والسلبي من جراء الفهم المنقوص للمسألة التي دار حولها الخلاف . لذلك، وقبل أن يرتب أحد أطراف الاختلاف أي قناعة أو موقف ، لا بد من أن يفهم المسألة بشكل كامل بحيث تتوافر لديه المعرفة التامة حول المسألة المعنية.
٣- البحث عن الحقيقة: وينبغي أن يكون الوصول إلى الحقيقة ديدن الجميع وإن كانت تخالف مشاربهم ومسالكهم في الحياة.
٤- الموضوعية وإنصاف الرأي الآخر.
ثالثًا : الآداب الاجتماعية
أهم ما ينبغي تأكيده هنا التسليم بحالة الاختلاف وتأثيراتها على الواقع، مع ملاحظة أنه لا يمكن إلغاء الاختلاف بين البشر مهما كانت الجهود، وعلى المرء أن يعمل على تأقلم النفس وتكثفها مع الواقع المتأصل ليس فقط في الفكر والرأي بل في كل حياتنا. وعن طريق هذا التكثُف يمكن تحقيق التعايش الإيجابي بين أبناء المجتمع لتقديم كل ما هو أفضل. ولا يعني ذلك تبنِّي وجهة النظر المخالفة والعمل بها. وللفرد الحق في إبداء الرأي ما دام ذلك في إطار من الإيجابية والاحترام .
أهم المذاهب الإسلامية
المذهب الأباضي
يرجع المذهب الأباضي في نشأته وتأسيسه إلى عصر التابعین ؛ فمؤسسه هو التابعي جابر بن زيد الأزدي، الإمام والمحدِّث والفقيه، من أخص تلاميذ ابن عباس – رضي الله عنهما – وراوي الحديث عن أُمّ المؤمنين عائشة – رضي الله عنها .
ولد جابر بن زيد في “فرق” إحدى قرى ولاية نزوى بين عامي (١٨ – ٢٢ هـ)، خرج إلى البصرة طلبا للعلم. بلغ من العلم مرتبة رفيعة حتى قال فيه شيخه ابن عباس – رضي الله عنهما -: “عجبا لأهل العراق ، كيف يحتاجون إلينا وفيهم جابر بن زيد؟”.
كان على علاقة وثيقة بكبار التابعين، وعلى رأسهم الحسن البصري. توفي سنة ٩٣ للهجرة بعد أن أخذ العلم عنه عدد من تلاميذه من بينهم الإمام أبي عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي .
المذهب الزيدي
ترجع الزيدية إلى زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي ، ولد سنة ٨٠ هـ، كان عالماً مُلمًّا بكتاب الله وبسنة رسول الله ، يُنسب إليه كتاب” المجموع الكبير” في علمي الحديث والفقه.
تلقى العلم والرواية عن أخيه الأكبر محمد الباقر الذي يعد خامس الأئمة عند الشيعة الإمامية، توفي سنة ١٢٢هـ.
المذهب الجعفري
ينسب المذهب الجعفري إلى أبي عبد الله جعفر بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي (ولد سنة ٨٣ هـ) وهو الإمام السادس للشيعة الاثني عشرية.
كان جعفر على جانب كبير من العلم، والورع، أقام بالمدينة مدة طويلة ، ثم دخل العراق ولبث فيها. نشر آراءه بهدوء،وقد أخذ عنه الشيعة الإمامية كثيرًا من الأحاديث، حتى إنه لم يرو عن غيره مثل ما روي عنه في الحديث والإفتاء. توفي في المدينة المنورة في السنة العاشرة من حكم المنصور سنة ١٤٨ هـ، ودفن في البقيع.
المذهب الحنفي
ترجع نسبة الحنفية إلى الإمام أبي حنيفة النعمان بن ثابت ، الكوفي، ولد سنة ٨٠ هـ، ألتقى بأنس ابن مالك لما قدم عليهم الكوفة. وكان فقيها ورعا ، لا يحدِّث إلا بما يحفظ .
كان أبو حنيفة من أئمة الرأي ، اشتغل كثيرًا بالفقه التقديري، وفرض المسائل التي لم تقع بعد، أثر عنه قوله: ” ما جاء عن
الرسول فعلى الرأس والعين، وما جاء عن الصحابة اخترنا ، وما كان من غير ذلك ، فهم رجال ونحن رجال”. ولم يقبل القضاء
فحبسه المنصور ، توفي سنة ١٥٠ هـ.
المذهب المالكي
ينسب المذهب المالكي إلى أبي عبد الله مالك بن أنس بن أبي عامر الأصبحي ، ولد في المدينة سنة ٩٣ هـ، طلب العلم وهو ابن بضع عشرة سنة، فأخذ عن نافع مولى عبد الله بن عمر، وغيره. تأهل للفتيا، وجلس للإفتاء وله عشرون سنة، وكان يقول:”ما أجبت في الفتوى حتى سألت من هو أعلم مني”. كان مجلسه مجلس وقار وحلم، وكان إماما في الحديث، وألّف كتاب “الموطأ”. مات الإمام مالك بالمدينة المنورة سنة ١٧٩ هـ، ودفن بالبقيع.
المذهب الشافعي
ترجع نسبة المذهب الشافعي إلى الإمام أبي عبد الله محمد بن إدريس القرشي الشافعي ، ولد يتيم الأب سنة ١٥٠ ه بغزة ، ثم رجعت به أمه إلی مکة وهو ابن سنتين .
نشأ في قلة من العيش، وضيق حال، استفاد من صباه إذ فيه استظهر القرآن الكريم، وجالس كبار العلماء، وتعلم أشعار العرب .
قدم على مالك لما بلغ من العمر ثلاث عشرة سنة فقرأ عليه الموطأ حفظًا، ولازمه فترة من الزمن قبل نزوله باليمن. ثم رحل إلى العراق، ونشر فيها علم الحديث ، وكانت مصر آخر محطاته التي توفي بها سنة ٢٠٤هـ، وهو ابن أربع وخمسین سنة .
المذهب الحنبلي
يرجع المذهب الحنبلي إلى الإمام أحمد بن حنبل بن هلال الذهلي الشيباني . ولد في بغداد سنة ١٦٤هـ، وتنقَّل بين الحجاز واليمن ودمشق، فسمع من كبار المحدثين ، ونال قسطاً وافراً من العلم والمعرفة. كان من أكبر تلاميذ الإمام الشافعي ببغداد ، ثم أصبح مجتهدا مستقلا، وقد برز على أقرانه يحفظ السنة النبوية والذب عنها ، وألَّف في ذلك كتابه “المسند”.
تلك هي أهم المذاهب الإسلامية التي بقي لها أتباع منذ تأسيسها حتى عصرنا الحاضر، إلا أن هناك من المذاهب والآراء ما لم يبق له وجود إما لعدم انتشار آرائه بصفة كبيرة ، وإما لتطرف أتباعه وشدة آرائه التي تتعارض مع مبادئ الإسلام أحيانا.
سبب تعدد المذاهب واختلافها
إن في اختلاف العلماء رحمة ، فهم جميعا اجتهدوا في نطاق فهمهم للنصوص ، وما وصلهم من حديث الرسول ولي، ولم يكن لأحدهم تعصب للرأي إذ إنهم يعتبرون رأيهم صوابا يحتمل الخطأ، ورأي الآخر خطأ يحتمل الصواب . لذا فإن الاختلاف مرده إلى التفاوت في فهم ما أجمل من القرآن الكريم، ودرجة التحري في الأخذ بالأحاديث النبوية الشريفة، وما تبع ذلك من اجتهاد بعض العلماء حيث لا يوجد نص أو أثر.
بهذا يتبين أن مؤسسي المذاهب الإسلامية التزموا أدب الاختلاف ، فلم يخطّئوا بعضهم بعضا ، بل كانوا يرفعون شعار التسامح واحترام الرأي الآخر ، ولسان حالهم يردد : نتعاون فیما اتفقنا علیه ، ویعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه .
الفقه التقديري : وهو الفقه في القضايا التي لم تقع بالفعل، ولكن يتوقع حدوثها في المستقبل، وقد سئل أبو حنيفة عن هذا الأمر فقال : نحن نستعد للبلاء قبل نزوله فإذا نزل عرفنا كيفية الدخول إليه والخروج منه”.