الثقافة الانسانية المفهوم والاهمية
لو أمعن الإنسان التفكیر في ذاته فسوف يكتشف أنه جزء من هذا الكون، وأنه ينطلق من فهم خاص، وأنه جزء من ثقافة بشرية عامة تشمل مجمل علاقات البشر بالطبيعة التي يعيش فيها وبالدائرة الاجتماعية التي ينتمي إليها، وله وسيلته الخاصة في فهم الآخرين وتكوين العلاقات معهم، ويمكن أن تنتظم هذه العلاقات بطرق شتى تبعا للمصالح والاهتمامات الأساسية، ويصبح لديه الحق في شراكة الآخرين انطلاقا من مقوماته الذاتية التي تتكون من مجموعة الأفكار والأدوات التي تتيح له التفكير والعطاء والقدرة على التواصل، فيجمع بذلك بين الثقافة المحلية وبين المشترك في الحضارة الإنسانية.
وسوف يكتشف المتتبع للعلاقات البشرية الممتدة عبر العصور أن ما يمتلكه الإنسان من مقومات التواصل مع الآخرين هو الرابط الحضاري، أي ثقافته وقدرته على فهمها وتطويرها ومنحها خصوصيته التي يعتز بها، واستخدامها في المشاركة الإنسانية، فالثقافة إذا تجربة مشتركة لا يحق لطرف أن يحتكر فضاءها، كما لا يجوز لطرف أن يتنازل عن نصيبه فيها.
ولكن ما المقصود بالثقافة ؟ وما الدور الفعلي الذي تقوم به في الحياة البشرية ؟
مفهوم الثقافة وأنواعها :
تعد الثقافة نمطا سلوكيا عاما للجميع، يتضمن وسائل التواصل والعادات والتقاليد والقيم والمبادئ الأخلاقية والفنون. وهذا
ينسجم ومعنى الثقافة في اللغة العربية، إذ إن الأصل اللغوي ((ثقف)) يحمل معنى التهذيب والصقل والإعداد، وهنا تكون الثقافة عملية رعاية وإعداد مستمرة للعقل والروح البشرية، وهذا ما أطلق عليه في القرن السادس عشر في أوروبا تدريب العقل وتكوين الروح.
والثقافة سلوك يكتسب عبر التعلم لا عبر الوراثة، لأنها تشمل عناصر غير مادية مثل اللغة والفن والدين والقيم والأخلاق،
وعناصر مادية مثل الملبس والمسكن والأدوات.
ومن خصائص الثقافة أنها مشتركة بين جميع أفراد المجتمع الواحد، وسريعة الانتقال بين أفراد النوع الإنساني وجماعاته مهما
بعدت المسافات وتعددت الحواجز، فعندما نشير إلى ثقافة مجتمعٍ ما فإننا نشير إلى عموم السلوك المكتسب والمشترك بين أفراد المجتمع المعني.
وتقسم الثقافة من حيث التفاعل الاجتماعي إلى نوعين: ثقافة ظاهرة وثقافة خفية، أما الثقافة الظاهرة فيشار بها إلى تلك الأنماط السلوكية الممكن مشاهدتها بطريقة مباشرة، أو السلوك الذي يتجلى في صورة الآلات والأدوات المادية، أو مشاهدة فعاليات شعبية، أو المشاركة في احتفالات رسمية أو دينية أو اجتماعية .
أما الثقافة الخفية فيشار بها إلى الأنماط الثقافية التي لا يمكن مشاهدتها بصورة مباشرة، فالأفكار والمعتقدات والقيم التي
يستحيل مشاهدتها أو لمسها، ولكنها تظهر في صورة سلوك يمكن مشاهدته والحكم عليه، فحين نرى إنسانا يصلي في مسجد فإننا نقرر عن طريق المشاهدة أن ذلك الإنسان مسلم ويقوم بواجبه نحو ربه. كذلك يمكننا تكوين فكرة واضحة عن نوع القيم والعلاقات التي تربط أنماط التفاعل الاجتماعي في مجتمع من المجتمعات عندما نشاهدها بصورة عملية في المناسبات والعلاقات الاجتماعية .
أما أنواع الثقافة من حيث تطورها فتقسم إلى نوعين :
١- الثقافة المتغيرة (المتطورة): وفيها نجد المتغيرات كثيرة العدد وسريعة، ولاتنعزل عن الأحداث، ويستمتع فيها الفرد بحرية
الرأي والتفكير، وهي ثقافة نامية تنظر الدول من خلالها إلى المستقبل على أنه أفضل من الحاضر، فتضع له الخطط وتحدد
الأهداف والوسائل وتنفتح على الثقافات الأخرى في الأخذ والعطاء، فتتأثر بها وتؤثر فيها .
٢- الثقافة الجامدة : هي التي ترفض أي نوع من التغيير ولا تتأثر بالثقافات الأخرى حتى لو كان هناك احتکاك بین أفرادها
وأفراد المجتمعات الأخرى، وفيها لا نجد اتجاها للتطور، أو إحساسا بالإصلاح، فتتركز آمال الإنسان على اهتمامات حياتية
محددة وقبول الأوضاع الراهنة بلا تفكير أو محاولة لتطويرها.
الثقافة .. بين العالمية والمحلية :
بدأ مسار الثقافة البشرية بثقافة الأدوات الحجرية في العصور الحجرية القديمة، ثم أخذت بالتطور من الصناعات البدائية إلى
استخدام النار التي لعبت دورا مهما في حياته. ثم عرف الإنسان الزراعة واستئناس الحيوانات وإنتاج الطعام والإبداعات الفنية وبناء المساكن والمعابد، وغيرها من المعالم الحضارية التي تعكس صورة حقيقية عن حالة من الارتقاء في الواقع الثقافي في كل حضارة أو منطقة من المناطق.
وتلعب الثقافة دورًا مهما في تطوير الوعي الإنساني، إذ إنها تجسد القيم والسلوكيات والعلاقات الاجتماعية المتنوعة، وتشكل أحد المكونات الأساسية للبناء الاجتماعي، والقاسم المشترك بين الدولة ومؤسساتها، والمجتمع المحلي وفئاته، فهي التي تصبغ المحتوى الفكري والحضاري والفني لهذا المجتمع. وتعكس في الوقت نفسه طبيعة العلاقات الاجتماعية ومستوى تطور القوى المنتجة وأسلوب الإنتاج.
الثقافة الوطنية :
تستند الثقافة الوطنية في تطورها إلى المكان الثقافي بما فيه من مؤسسات وأدوات، حيث يهدف المكان الثقافي بأروقته ومناشطه وأدواته إلى التعبير عن المسؤولية المعنوية حيال الثقافة الوطنية، وتحقيق التواصل بين الثقافة الوطنية والحياة العامة التي يعيشها أبناء الوطن، فالمكان الثقافي، وفق هذا المنظور، تلخيص لثقافات الإنسان وإبداعاته وأفكاره في البيئة التي يعيش فيها.
وتعمل المؤسسات الثقافية والأدبية، بحكم ما تتميز به من احتراف للعلم والثقافة والأدب، على إنتاج القيم الحضارية، وإعادة
إنتاجها وفق متطلبات اللحظة التاريخية.
أما الأدوات الثقافية فتعبر عن النظم الثقافية وأبعادها الوطنية، حيث يفترض بها أن تكون قادرة على الإحاطة بالعمق الحضاري والتاريخي للوطن وهذا يمكنها من إبداع أساليب وأطر ثقافية اجتماعية تربط الثقافة الوطنية المعاصرة بالتاريخ الوطني للمجتمع.
وبذلك تصبح المؤسسات الثقافية والأدبية حلقة وصل حيوية بين العمق الحضاري ومتطلبات الحاضر وآفاق المستقبل، ومن أبرز مهام هذه المؤسسات توسيع أرضية الحوار والتلاقي بين طاقات الوطن الثقافية والفكرية والعمل على بلورة الثقافة الوطنية، وتلبية متطلبات المواطنين الثقافية وحاجاتهم وتطلعاتهم، وكذلك الإسهام في تطوير الثقافة الوطنية فتتعهدها وتصقلها وتضيف إليها.
التنوع الثقافي :
لكل ثقافة بيئة محلية وتاريخية ومجتمعية، ولها توازناتها الذاتية المستمدة من المنابع والمصادر الأصلية لهذه الثقافة، ومن الواقع وتفاعلاته. لذلك فإن لكل ثقافة شخصية متميزة عن الثقافات الأخرى. وهنا ندرك أن الإنسانية تعيش بصورة متواصلة مع ما يعرف بالتنوع الثقافي.
يقصد بالتنوع الثقافي، حسب تعريف منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) الطرق المعبرة عن ثقافات المجتمعات.
ويتم تناقل أشكال التعبير عن هذه الثقافات داخل المجتمعات وخارجها من خلال السلع والخدمات الثقافية وشتى أنماط الإنتاج والنشر والتوزيع والاستهلاك، أيا كانت الوسائل والتكنولوجيات المستخدمة.
ومن الأشكال المختلفة للثقافة عبر الزمان والمكان تنبع خصوصية الهويات وتعددها، وطريقة التعبير الثقافي لكافة المجتمعات. ولا تقتصر تجليات التنوع الثقافي على تنوع أساليب التعبير عن التراث الثقافي للبشرية وأساليب حمايته وإثرائه ونقله إلى الأجيال المقبلة، كما أنها لا تنحصر بالضرورة داخل نطاق الحدود الوطنية.
أما من حيث المعنى اللغوي فلا تعدو عبارة التنوع الثقافي أن تكون وصفا للواقع الثقافي البشري منظورًا إليه من زاوية التباين أو الاختلاف والتشابه أو التطابق مضمونا وشكلاً على نحو يجعلها تتمايز إلى أنواع.
ويركز المفهوم الحديث للتنوع الثقافي على أهمية استمراره، وأحقية مختلف الثقافات في حفظ كيانها واحترام أوجه اختلافها
وتمیزها وحمایة ثقافتها.
التنوع الثقافي في عصر المعلومات :
يعد الدور الذي تقوم به تكنولوجيا المعلومات والاتصالات من أبرز عوامل التواصل في ظل التنوع الثقافي، وذلك لما تزخر به من قدرة عالية على حفز الإبداع والابتكار، وتوفير المنتجات والمضامين والخدمات الثقافية بجميع أنواعها، ونشرها وتبادلها
باعتماد وسائل الاتصال المباشر عبر شبكة الإنترنت، أو غير المباشر كالأقراص المضغوطة، وتتيح لكل فرد إمكانية تعرف ثقافات الشعوب الأخرى بمختلف أنواعها والإفادة من بعض عناصرها، وهذا ما يسمى بالتأثر الثقافي، حيث خلق عصر المعلومات ثقافة عالمية قائمة على التنوع الثقافي.
ومن البديهي أن تتأثر جميع الثقافات بالتطورات الناتجة عن وسائل تكنولوجيا المعلومات والاتصال وظاهرة العولمة. صحيح أن تلك التطورات يمكن أن تحقق التقارب بین الناس، ولكنها لا ينبغي أن تؤدي إلى هيمنة ثقافة أو أكثر على ثقافات أخرى أو تشجع على الانغلاق الثقافي. بل ينبغي أن تشجع التعددية وعدم التمييز بين الثقافات بهدف تحقيق التحاور والإثراء المتبادل. ومن هنا تأتي الحاجة إلى اتخاذ إجراءات ملموسة من قبل المؤسسات الثقافية، بحيث تشجع التنوع الثقافي وتحقق التوازن في التدفق الدولي للمنتجات والمضامين والخدمات الثقافية.
لقد أدى تسارع العولمة من ناحية، وانتشار وسائل تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في مختلف الأنشطة من ناحية أخرى، إلى تحديات جديدة متعلقة بالثقافة وتحديدا بالتنوع الثقافي، فالمنتج الثقافي بوصفه حاملا لهويات الشعوب وقيمها ودلالاتها، وباعتباره تراثا مشتركا للإنسانية مشكلاً ركيزة أساسية من ركائز التنمية المستدامة، لا ينبغي أن يخضع لآليات السوق نفسها، كما هو حال سائر السلع الأخرى ذات الطبيعة الاقتصادية، وإنما يكتسب صبغة خاصة تجعله يتسم بطبيعة مزدوجة: اقتصادية و ثقافیة.
وبهدف تأمين مبدأ تساوي ثقافات العالم، وتجنب سيطرة ثقافة على الثقافات الأخرى، تحرك المجتمع الدولي من خلال منظمة الأمم المتحدة وهيئاتها المختصة، فأبرمت الدول اتفاقية من أجل حماية تنوع أشكال التعبير الثقافي وتعزيزه، والتزم قادتها في فعاليات مرحلة تونس من القمة العالمية (١٦ – ١٨ نوفمبر/٢٠٠٥) حول مجتمع المعلومات، باحترام مبدأ التنوع الثقافي واللغوي بين مختلف الشعوب.
الثقافة العالمية …. تجارب وتواصل:
تمكنت المجتمعات الإنسانية من إنتاج ثقافات خاصة بها حَوت مجمل خبراتها ومعارفها وفنونها، تناقلتها عبر الأجيال ومن مجتمع إلى آخر. وإذا حاولنا أن نبحث عن نموذج من التاريخ الطويل للإنسانية فإن الزراعة قد تكون النموذج الأول والأوضح.
وعندما توصل بعض المجتمعات إلى تجربة الزراعة ومعرفة أسرارها وأساليبها فقد تكونت في هذه المجتمعات ثقافة غنية تمثَّلت في استغلال الأرض لصالح الإنسان وبقائه، وعندما انتقلت هذه التجربة إلى مجتمعات أخرى أصبحت ثقافة الزراعة حضارة إنسانية مفتوحة.
وتميزت هذه الثقافة بالرقي والتقدم على امتداد التاريخ، فعرفت الإنسانية بناء البيت والمخزن، والبذور والأسمدة، والفأس والمحراث، واكتشفت أساليب الري المختلفة.
وتنوعت الثقافات البشرية بعد ثقافة المجتمع الزراعي، فازدهرت التجارة، وبرزت مقومات التفكير الحر والتعبير الخلاق، وصولا إلى ثقافة المجتمع الصناعي والاتصالات والربط بين النظرية والتطبيق.
وترسخت تجارب الإنسان في فكره وعلاقاته وتصرفاته في إطار من الخصوصية الثقافية الممتدة نحو الثقافة العالمية، فانتظمت المجتمعات، وتوالت عصور الانتشار الفكري من الكلمة المطبوعة إلى الصورة المرئية، وكل ذلك بالتواصل والتفاعل دون حاجة إلى إلحاح يقنع أو سلاح يفرض، طالما أن المجتمعات البشرية لديها ذلك التشوق والتسابق نحو مطالب الرقي والتقدم.