الاقاليم الثقافية والهوية الوطنية
يشير مصطلح إقليم بصورة عامة إلى منطقة محددة تتضمن بعض الخصائص المتجانسة التي تميزها عن المناطق الأخرى، ويطلق عليها أحيانًا ثقافة المنطقة التي ترتبط بالنشاط البشري، وتضم عددًا من المجتمعات التي تمتلك سمات مشتركة في التوجه الثقافي السائد. وطبيعة الإقليم تميّز الجماعة بما تكسبها من لون وشكل وبما تمدّها به من الموادّ الخام لسدّ حاجاتها الحيويّة من غذاء وكساء وبناء وأدوات.
وتظهر العلاقة الوظيفية بين الإنسان وبيئته كثيرًا من معطيات التفاعل والاتصال الثقافي. ويعد الإنسان الكائن الوحيد الذي
أضاف بعدًا جديدًا إلى محيطه الطبيعي وهو البعد التكنولوجي، وهذا يؤكد العلاقة بين العلم والتكنولوجيا والمجتمع، وأن كل إقليم ثقافي يمثل في حقيقته قدرة الإنسان على التفاعل في حدود المكان والزمان.
مميزات الإقليم الثقافي وأسس بنائه :
الأرض مقسمة بحسب تكوّنها إلى أقاليم وبيئات، ويتميز كل إقليم من الأقاليم الثقافية العالمية بخصائص تختلف عن خصائص الإقليم الآخر، وبطيف واسعٍ من العلاقات التي تنتظم في الأشياء والظواهر، وتحكم حركة الطبيعة والمجتمع والفكر والتقنيات. وترتبط الأحداث داخل الإقليم الواحد بما يعرف بالعلاقة السببية، أي العلاقة بين طرفين يؤثر أحدهما على الآخر، وهذا يؤدي إلى وقوع حدث، أو علاقة بين حدثين يسبب وقوع أحدهما وقوع الحدث الآخر، فالأرض مثلاً تفرض واقعها على الإنسان، وهو بدوره يرد الفعل ويسعى إلى استغلالها بما يتناسب وحاجاته، فالتوافق بين الإنسان والبيئة هو الذي يحدد الجماعة ومكوناتها الثقافیة.
وهناك أنواع مختلفة من المناطق الثقافية التي يمكن تحديد خرائطها الثقافية كالتجمعات الدينية والجماعات التي تتميز بنوع خاص من الفنون الشعبية والملابس ونوعية البناء وأشكاله مع ملاحظة أن هذه المقومات الثقافية قد تختلف قليلا من منطقة ثقافية إلى أخرى، حتى في المنطقة نفسها.
ومن أبرز الأسس التي تبنى عليها الأقاليم الثقافية:
١- البيئةُ: حتى نقف على حقيقة التكون الثقافي في إقليم معين علينا أولا أن نفهم علاقة الإنسان بالبيئة، فعلى الرغم من أن
البشر من خلقٍ واحدٍ، إلا أنهم مختلفون في القدرات، وأينما يعيش الإنسان فإن عليه أن يتكيف مع البيئة التي يعيش فيها،
ويكون هذا التكيف في تأمين متطلبات الحياة والاستقرار البشري، كالزراعة والصناعة والفنون، وما يتصل بذلك من
ممارسات في الحياة اليومية .
٢- الانتماء إلى الذات: حيث ينسجم الفرد مع نفسه في الحياة والوجدان الوطني، ويشعر بالانتماء الطبيعي إلى النسيج
الاجتماعي لأمته. وتظهر أهمية هذا الانتماء في كلٍ مظهرٍ من مظاهر أعمالنا الفكرية والسياسية والاجتماعية، وهو ضروري
لتأسيس المجتمعات على عقليةٍ أخلاقية تهدف إلى توحيد الرؤية الوطنية الاجتماعية كخطوةٍ أولى نحو بلورة الشخصية الوطنية للأمة.
العلاقة بين الهوية والثقافة في الإقليم الواحد:
يشكل الإقليم الثقافي نظرية متكاملة في المعرفة والسلوك لأن مقوماته الأساسية في النشوء والوعي هي التي تقوم بإحياء الهوية الجماعية وترسيخها، وتحديث مقومات الشخصية الوطنية وفق منظومات تنسجم مع المجتمع، وتعزز التعدد والتنوع في المجتمع الواحد، ذلك التنوع الذي يجعل الوطن قادرًا على الحضور والتواصل مع مختلف البيئات، وقابلاً للتحاور مع مختلف الثقافات.
ولأنَّ الهوية هي القيم التي تسهمُ في صوغ حقيقة الإنسان، وثباته وتحولاته، فهي أنماط سلوك ومواقف وتصرّفات إنسانية،
وبرامج عملٍ تؤسّس حقائق حضارية ثقافية واجتماعية وفكرية و اقتصادية وسياسية.
وربما نحتاج إلى أنْ نقرأ ((هُويتنا)) قراءة متوازنة في ضوء قوانين التطور والتغير، وذلك حتى نحسن فهمها، وكي نؤسس تحولاتها الممكنة على تفاعل الحاضر مع الماضي الحي، ومع آفاق التطور الإنساني المفتوح.
وفي مسعى للبحث في العلاقة بين الثقافة والهوية، عبر توضيح العلاقة التفاعلية بينهما، نستنتج أنَّ الهوية لا تتعارض فيها مكوناتها الثقافية مع خصائص الهوية الوطنية أو القومية، فالهوية المنبثقة من ثقافة إنسانية عريقة تكون قادرة على الانفتاح والتواصل مع التاريخ ومعطيات الحاضر الموسوم بالجهد والمثابرة، والقدرة على المشاركة في صنع الحضارة الإنسانية، وذلك مع تواصل هذه الهوية ضمن مبادئ إنسانية متفتحة، وقيم ومعايير تحترم الإنسان وتحمي حقوقه و حریاته جمیعًا.
وهنا ندرك أنَّ الثقافة ذات شأنٍ وطنيٍّ ومجتمعيٍّ عظيم فهي صانعة هُوِيَّةٍ يصنعها الإنسان وتصنعه، وهي بانية الأوطان
والمجتمعات والأمم، وهي حافظة تراثها وتاريخها، وسجل حاضرها، وقاعدة تطورها المستقبلي ونمائها.
الهوية الوطنية :
بما أن الهوية الوطنية مدينة للثقافة التي أوجدتها فإنَّ الواجب الأول على الجميع يتمثَّل في تعزيز الهوية الثقافية التي تُكسب الأمة مكونات هويتها الوطنية، وترسخ حضورها في مختلف مناحي الحياة والأنشطة الإنسانية جميعًا، ويكون ذلك على النحو الآتي:
١- تفهم الأحداث التاريخية وأسبابها ونتائجها، وربطها بالحاضر والمستقبل.
٢- إدماج البعد الثقافي في العملية التنموية، وتأكيد أهمية التفاعل بين الثقافة والتنمية.
٣- ترسيخ الوعي بالأهمية الجوهرية التي تتمتَّع بها القيم الثقافية الوطنية والانفتاح على ثراء التنوع الثقافي الإنسانيّ، وتطور
الحياة.
٤- التمسك بقيم الحرية والعدل والمساواة والسلام، ومبادئ حقوق الإنسان المتأصِّلة في نسيج الثقافة الوطنية، وتعزيز
اندماجها وحضورها في الأنشطة الإنسانية جميعًا.
التعددية الثقافية والهوية الوطنية :
إن التعددية الثقافية ليست بالأمر الجديد على عصرنا، إذ إن هناك مجتمعات كثيرة تتكون، منذ وقت طويل، من جماعات ثقافية مختلفة، وقد وجد كل منها طريقه الخاص إلى ممارسة التنوع، بل إن طابع التعددية ازداد في الثقافة المعاصرة التي أصبحت تتصف ببعض السمات الفريدة التي تميزها عن ثقافات المجتمعات الأخرى.
يعد التنوع الثقافي صيغة للتعايش والتواصل الحضاري الإنساني من خلال القبول العام بالتعددية الثقافية سواء داخل الحضارة الواحدة والوطن الواحد أم مع غيرها من الحضارات والثقافات، ولذلك يمكننا أن نعتبر بحق أن التعددية الثقافية ميزة الإنسان على الأرض دون سواه، ويرى بعض علماء الاجتماع أن المجتمعات الأكثر تنوعا هي الأكثر تقدمًا، لأن التنوع مصدر غنى ثقافي وحضاري واقتصادي، فالتنوع يخلق إبداعًا متجددًا وفاعلاً تستطيع معه الحضارة الواحدة أن تنطلق إلى آفاق معرفية وفكرية مضطردة بعكس الثقافات التي ترفض التعددية والتنوع، حيث إن هذا الرفض ينعكس سلبا على التقدم والتطور ويعيق المسار الحضاري. غير أن التعددية الثقافية تستثير المخاوف لدى بعضهم في شأن فقدان الهوية، وتدفع إلى إعادة اكتشاف أو إبداع تقاليد ذاتية تؤكد الشعور بالاختلاف الثقافي، مع إضفاء صبغة المشروعية على هذا الشعور.
ولقد عالج بعض الدول هذه القضايا بتطبيق سياسات صريحة للتعددية الثقافية، بينما هناك دول أخرى تعالج هذه القضايا
باعتماد مواقف تقوم على الاستيعاب الثقافي الذي يكاد لا يترك مجالاً للحفاظ على ممارسات ثقافية متميزة.
وعلينا أن ندرك أن القبول بالتعددية الثقافية لا يعني التعارض مع الانتماء الوطني، حيث يسعى كل تنوع إلى الانفتاح على كل ما هو منسجم معه تاريخيًّا وفكريًّا، وهذا لا يتناقض مع حضارة الفرد وثقافته، فالانتماء ضرورة وطنية ومصيرية، كما أن الانفتاح على الثقافات الأخرى واقع حضاري وضرورة مجتمعية .
تحولات الأقاليم الثقافية : العوامل والتحديات
لم تكن في البداية سوى ثقافة بشرية واحدة، تلتها بضع ثقافات، بدأت تنمو وتتكاثر وتتفرع إلى ثقافات فرعية عدة، يستوطن كل منها في منطقة معينة أو إقليم من الأقاليم. ومع أن هذه الثقافات كانت تضمحل وتتوارى وتزول مع مرور الزمن لتحل محلها ثقافات أخرى إلا أنه مرت فترة كان فيها عدد الثقافات التي تنشأ وتستجد أكبر من عدد الثقافات التي تتوارى وتزول. ونتج عن ذلك أن ازدادت الأقاليم الثقافية وازدهرت مع تزايد العدد الكلي للثقافات الحية، واستقرار ظاهرة التنوع الثقافي.
وبدأت بعد ذلك مرحلة جديدة من اندماج الثقافات الإنسانية في بعضها بعضا لتكون ثقافة واحدة يزيد عددها وتنوعها على عدد ما ينشأ أو يستجد منها، وهذا يشعر باستقرار الأقاليم الثقافية العالمية في نطاقاتها الجغرافية المعروفة، مع استمرار التواصل الحضاري الذي يؤثر بدوره على نوعية الثقافة المكتسبة في هذه الأقاليم، وكذلك حجمها ومدى ثباتها وأهمية الحفاظ عليها أو الأخذ منها من قبل الآخرين .
ولا شك أن التحولات التي تشهدها الأقاليم الثقافية لها أسبابها و عواملها ، نذکر منها :
١. الاستقرار البشري: يمكن عزو التحول المتمثل في تراجع التباين الثقافي بين الأقاليم إلى توقف العوامل التي كانت تدفع إلى نشوء ثقافات جديدة، مثل توقف أو انتهاء النمط الانتشاري القديم وغير المنظم من الهجرات السكانية، وكذلك المتابعة الدولية الحثيثة للحد من الهجرات غير الشرعية على الرغم من محدودیتها.
٢. التنمية الثقافية: تلعب دورا مهما في التحولات التي تطرأ على الثقافة الإقليمية سواء على النطاق المحلي أم الدولي، حيث تتركز الخدمات الأساسية والظروف المعيشية الأفضل نسبيا في مدن وأقاليم معينة، وتنجم عن ذلك هجرة المجموعات السكانية إلى تلك الأقاليم، متحولة بذلك ليس فقط عن مواطنها الأصلية وإنما أيضا – ولكن تدريجيا وجزئيا – عن لغاتها وثقافاتها الأصلية، التي لم تعد تتناسب مع ثقافة ولغة المناطق التي هاجروا إلیها.
٣. العولمة والتطور التقني والمعلوماتي: تتباين وجهات النظر حول أثرها على تطور الثقافات في الأقاليم والمناطق الثقافية، ولعل هذا التباين يرجع إلى التباين في مفهوم العولمة وزوايا النظر إليها. بيد أن من الواضح أن للعولمة آثارا متباينة على التنوع الثقافي في معظم المناطق الثقافية، فهناك آثار داعمة لهذا التنوع، فقد أتاحت العولمة للثقافات، في جانبها التقني، وسائل أفضل للانتشار الإقليمي. وفي المقابل هناك آثار مخلة بالتنوع الثقافي، وذلك نتيجة للتفاوت الكبير بين المجموعات الثقافية في القدرات الفعلية لتوظيف التقنية المصاحبة للعولمة، حيث شكلت هذه التقنية مصدر اختلال في التدفق الثقافي لصالح ثقافة المجموعة الأقوى ماديا وتقنيا، حتى بدأت هذه الثقافة تسجل داخل المجموعات أو الأقاليم الثقافية الأخرى حضورا أقوى من حضور ثقافاتها.
٤. التطور الصناعي والسلعي: يمثل جانبا مهما في التحولات التي تشهدها الأقاليم الثقافية، ومن أبرز ملامحه اتساع المدن الصناعية وتوسعها، وتنوع الإنتاج وكثافته ومواصفاته، وزيادة الاستهلاك، وتعدد وسائل الاتصالات، وقوانين التعاملات المالية ونظمها. ودخل الإنسان نتيجة هذا التطور في مرحلة التطور التكنولوجي والتوسع الرأسمالي، وظهرت شركات عابرة
القارات ومراكز عالمية ومنظمات دولية متخصصة، فتطورت بفعل ذلك الحياة الإنسانية بكل أبعادها المادية والفكرية، وظهر
نظام اجتماعي أسهم في زيادة الإنتاج الثقافي، وتنوع مؤسساته وتعددها.