تاريخ

الإمام جابر وانتشار المذهب الأباضي

الإمام جابر وانتشار المذهب الأباضي

جابر بن زيد مؤسس المذهب الأباضي

على أسس الدين الإسلامي ، بنيت حواضر ومجتمعات جدیدة، التزمت بروح الدین الجدید ، بغض النظر عن هويتها الثقافية والعرقية ، وأخذت تفعّل قيم الدين ومبادئه في حركتها ومسيرتها التاريخية في ظل عمليات التغير والتجديد والارتقاء .
وأصبحت البصرة من أهم الحواضر والأمصار في الدولة الجديدة ، منذ تمصیرها سنة ١٤ هـ، وذلك بسبب موقعها بين الصحراء وسهول العراق ، وتربعها على رأس الخليج ، واتصالها بكافة مراكز الحضارات ، حتى أصبحت ” عين العراق”، وزاد ثراؤها فأصبحت ” جنة
الدنیا” وها هو زعيمها الأحنف بن قیس يفتخر بمدینته ویعدد خیراتها: ” نحن أکثر ساجًا وعاجًا ودیباجًا ونهرًا عجاجًا ” .

فوفدت إليها القبائل والجماعات من كافة الأرجاء ، لتتخذها مستقرًا ومقامًا ، فزاد عدد سكانها، وتنوعت ثقافاتها، واتسعت أحياؤها، وتعددت منارات العلم بها، وصارت مدينة عالمية في عصرها .
في ظل هذه الظروف كانت حاجة البصرة إلى من يرشد سكانها، ويصهر فئات أهلها وينير جوانب حياتها ، فظهر بها العديد من العلماء والفقهاء الذين اشتهروا بشهرتها ، وأبدعوا في تطورها ونموها وتجديد حياة أجيالها ومجتمعها .

وقبل أن ينتصف القرن الأول الهجري برز فيها جابر بن زيد الأزدي ، قادمًا من عمان، لدراسة علوم الإسلام، فنهل من ينابيع مصادرها ، ومن مشاهير الصحابة وكبار التابعين ، وارتقى إلى مصاف الأئمة والعلماء والمصلحين، وعرف بعالم البصرة والعراق وأعلم أهل الأرض بين معاصريه، فتوافقت وتكاملت مكانة وإمكانيات جابر مع حاجيات وأوضاع مدينته .
لقد عاصر جابر بن زيد أهم فترات البصرة منذ تأسيسها ، وتابع مراحل نموها وازدهارها ، وراقب تطلعات مجتمعها في التجديد والتغير والانفتاح، وتحول الدولة الجديدة إلى دولة عالمية تتلاقح مع كافة الأمم والثقافات والملل .
من هنا كان جابر رجل المرحلة ، والساعي إلى المصلحة، فالتف حوله طلاب العلم ، وقصده السائلون والحائرون في شتى أمور الدين والدنيا ، وذاعت شهرة العالم العماني مع عالمية مدينته .

نزل جابر إلى صفوف المجتمع، وحول فكره إلى نهج وعمل ، وارتبط بقضايا الناس وهمومهم ، فأخذ يفتي ويصلح ، ويقدم من نفسه قدوة لغيره، فكان يتصدى لفكر المنشقين عن الجماعة والمجتمع، ويراقب العملة المزيفة ويقاوم تداولها ، ويتحسس أوضاع أصحاب الحاجة من الناس ويقول: ” لأن أتصدق بدرهم على يتيم أحب إليَّ من حجة بعد حجة الإسلام”.

وإلى جابر هفت نفوس طلاب المعرفة، وتخصصت له في جامع البصرة حلقة، وتوافد إليه الطلاب من كافة البلدان ، ومن مختلف الفئات، وارتبطوا بفكره ونهجه وعرفوا مقاصده، ومن هؤلاء: عبدالله ابن أباض، وأبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة، وعمرو بن دينار المكي، وعمرو بن هرم الأزدي البصري، والربيع بن حبيب الفراهيدي، والمثنى بن سعيد، وقتادة بن دعامة (شيخ البخاري)، وثابت بن أسلم البناني ، وحتى عبدالملك بن المهلب في خراسان .
وانتشر فكر جابر، وشكل أتباعه جماعة تهتدي برأيه، وصار لأتباعه نهجًا خاصًا وطريقًا مميزًا يرتبط بالجماعة ويلتزم بالتسامح والاستقامة ، وأصبح لهم من يعبر عن فكرهم أمام الآخرين. وكان عبدالله بن أباض التميمي، هو المناظر والمتحدث باسمهم.
وبدأ فكر جابر ينتشر بين العديد من مناطق العالم، ومختلف الأقاليم، من المغرب وخراسان وسواحل وجزر المحيط الهندي .

الأحنف بن قيس التميمي :
زعيم تميم بالبصرة في منتصف القرن الأول الهجري، وشكلت قبيلته أهم القبائل التي ينتمي إليها مشاهير رجال
البصرة. وارتبط العديد من هؤلاء بفكر وآراء جابر بن زيد فيما بعد .

أقاليم انتشار فِكر الإمام جابر بن زيد

استمر ارتباط تلاميذ جابر وأتباعه بنهجه في الاجتهاد في مسائل الشرع وعلوم الدين ، وأصبح أبو عبيدة مسلم بن أبي كريمة التميمي ، ومن بعده الربيع بن حبيب الفراهيدي ، على رأس هؤلاء الأتباع، وظلت البصرة حتى نهاية القرن الثاني الهجري أهم مراكزهم .
ومن البصرة بدأ انتشار فكر الإمام جابر ونهجه . ومن أهم الأقاليم التي سادت بها آراء الإمام والمجددين من أتباعه ما يأتي :

حضرموت واليمن
تعرضت منطقة الجنوب الغربي من شبه الجزيرة العربية لظروف صعبة خلال العصر الأموي ، أدت إلى تدهور اجتماعي واقتصادي، فظهر من بين رجالها علماء تتلمذوا على يد خلفاء الإمام جابر، وأخذوا على عاتقهم الاهتمام بأحوال الرعية في مناطقهم وإصلاح المجتمع في بلادهم ، خاصة وأن الدولة الأموية انشغلت بمشكلاتها في الشام والمشرق .

أمام هذه الظروف الصعبة ، التي تعرض لها أهل حضرموت واليمن ، ظهر عبدالله بن يحيى الملقب بطالب الحق ، وأرسل إلى الإمام أبي عبيدة مسلم خليفة الإمام جابر في البصرة ، يوضح له الظروف، ويستأذنه في العمل على رفع الظلم عن الأهالي وإصلاح أحوالهم، فوافق الإمام مشترطا عليه الاقتداء بالسلف الصالح ، والبعد عن الغلو .
نجح طالب الحق في تحقيق أهدافه في حضرموت سنة ١٢٩هـ، ثم دخل صنعاء، وتراجع أمامه ولاة بني أمية، ثم أرسل جيشًا توجه إلى الحجاز وضم الطائف ومكة والمدينة سنة ١٣٠هـ. لكن الأمويين تمكنوا من إرسال جيش بقيادة عبد الملك بن محمد بن عطية السعدي ، أعاد سيطرة الأمويین من جدید على الحجاز وصنعاء وحضرموت .
ورغم قصر فترة حكم طالب الحق إلا أنه ترك آثارًا اجتماعية وإنسانية مهمة في تاريخ تلك المنطقة، من خلال إبراز وتفعيل المبادئ والقيم الإسلامية ، فقد أحسن إلى الناس وعاملهم معاملة حسنة ، وكان متسامحًا مع كافة فئات المجتمع ، ورفع الظلم عن كاهل المواطنين ، ووزع الأموال والصدقات على الفقراء والمحتاجين . واستمرت آراء أتباع وعلماء الأباضية هناك حتى القرن العاشر الهجري .

ب- عُمان

ارتبط أهل عُمان بالفكر المعتدل والمستقيم للإمام جابر، والتزموا بنهجه في التسامح وأدب الحوار والتعامل مع كافة الثقافات. وتحتوي صفحات المصادر التاريخية على أدلة دامغة على النهج الواضح لأهل غمان ، فقد ابتعدوا عن الفتن التي تعرضت لها الدولة منذ عصر الخلفاء الراشدين، وکان لهم دور في محاربة الغلاة من الأزارقة والنجدات . كما وفروا الأمن والاستقرار للمجتمعات التي عاشوا بها ، وتعاملوا مع أهلها ، حتى أن القائد العُماني المهلب بن أبي صفرة كان صمام الأمن والأمان لأهل البصرة، حتى سميت “بصرة المهلب”.

وهناك عوامل أدت إلى ارتباط أهل عُمان بفكر الاعتدال والتسامح منذ البداية منها: المكونات الحضارية للشخصية العمانية فهي شخصية عالمية منذ القدم ، متواصلة مع العديد من الشعوب والأمم، متعاملة مع مختلف الديانات والملل، وهو ما أتاح لها النظرة الواعية والمرنة وسعة الأفق في التعامل مع المتغيرات التي طرأت على المنطقة بعد ظهور الإسلام وتغير النظام. كما أن الوجود العماني المؤثر في البصرة تلاقى مع فكر جابر واجتهاداته السمحة. بالإضافة إلى التزام أهل غمان بالارتباط بالجماعة ورفضهم الخروج عن الصف ووحدة الأمة.

ج- خُراسان

أصبحت خراسان أهم ميادين سيادة أزد عُمان في المشرق ، وخاصة منذ نزول المهلب بن أبي صفرة وقواته العمانية بها في العصر الأموي. وأصبح فكر جابر وآراؤه واجتهاداته مرجعًا لأهلها في تلك الفترة. ومن أشهر المصادر الدالة على ذلك الرسائل المتبادلة بين جابر وبين عبدالملك بن المهلب . لكن أحوال الإقليم تبدلت بعد نكبة المهالبة سنة ١٠٢هـ، ومع بداية العصر العباسي .

د- سواحل وجزر بالمحيط الهندي

حملت أفكار الإمام جابر بن زيد وآراء أتباعه إلى الأقاليم والجزر التي ترتبط بخطوط التواصل البحري العماني منذ القدم ، مثل سواحل شرقي أفريقيا والجزر المواجهة لها ، خاصة مع هجرة سعيد وسليمان ابني عباد بن عبد بن الجلندى من عُمان إلى تلك المناطق. كما انتقلت تلك الأفكار مع السفن والجاليات العمانية إلى سواحل جنوب وجنوبي شرقي آسيا. ويكفي للدلالة على ذلك دور التجار من أهل غمان في نشر قيم الإسلام وثقافته إلى تلك الجهات التي كانت بعيدة عن سيطرة الأمويين والعباسيين.

هـ -شمالي أفريقيا

وهي التي عرفت ببلاد المغرب، والتي شهدت تدهورًا في العصر الأموي، رغم تحول سكانها البربر إلى الإسلام، وأخذوا في البحث عن سبل للخروج من أوضاعهم، فكان فكر المذهب الأباضي الذي حمله سلمة بن سعد الحضرمي إليهم منذ نهاية القرن الأول الهجري الملاذ لهم .
ونجح أهالي المنطقة في تأسيس دول على نهج الفكر المعتدل لأتباع وتلاميذ الإمام جابر تمكنت من إصلاح أحوال الرعية ، والنهوض بتلك المناطق ، حتى أصبحت مجتمعاتهم من أزهى المجتمعات، لا سيما في القرنين الثالث والرابع الهجريين . ومن أهم مراكز تلك الكيانات :
١- طرابلس سنة ١٤٠هـ زمن أبي الخطاب عبد الأعلى بن السمح المعافري.
٢- تاهرت زمن الرستميين (١٦٠هـ – ٢٩٦هـ).
وقد امتد التأثير الإيجابي لتلك الكيانات إلى واحات الصحراء الأفريقية ، وإلى جنوب الصحراء التي تعرف بـ ” بلاد السودان”.

بلاد السودان :

الاسم الذي أطلق على أقاليم جنوب الصحراء الأفريقية من البحر الأحمر وحتى سواحل المحيط الأطلسي، وقسمت إلى ثلاثة أقاليم: الشرقي (السودان الحالية)، الأوسط (تشاد)، والسودان الغربي من غرب تشاد حتى سواحل الأطلسي (غرب أفريقيا حاليًا).

الالتزام بالتسامح والاعتدال

على الرغم من سيادة فكر جابر وأتباعه في مناطق ومجتمعات من العالم في العصر الوسيط، فإنها التزمت بأسس التسامح وأدب الحوار مع المدارس والمذاهب الأخرى التي عاشت معها وعاصرتها في تلك المناطق، وتفاعل علماؤها مع علماء المذاهب الأخرى من أجل مصلحة المجتمع العليا .
والتزمت مدرسة جابر بن زيد في مسيرتها التاريخية الطويلة بصفة التسامح مع الآخرين، واحترام وجهات نظر المحاورين، وهي الصفة التي دعت إليها آيات عدة من القرآن الكريم:

وفي السنة جعل الرسول الكريم و التسامح أحب الأمور إلى الله تعالى:”أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة”.

وقد أثمرت تلك السلوكيات الأخلاقية للعلماء في انتشار أفكارها بين كافة الأجناس ومختلف الطبقات وشتى البيئات ، من بربر وفرس وهنود وأفارقة وغيرهم، وكانت صفة التسامح والاعتدال العامل الأساس لاستقرار وأمان تلك الأجناس والمجتمعات. وكانت ثمرة ذلك الانتشار بناء مجتمعات مزدهرة وحيوية تجمع كافة الأشكال من مختلف البيئات، كما حدث في تاهرت على سبيل المثال.

التسامح :
١- في اللغة : الجود والعطاء عن كرم وسخاء ، والمسامحة: المساهلة .
٢- في المفهوم الديني : له شكلان :
أ) التسامح مع أهل الملل والعقائد الأخرى .
ب) التسامح مع الآراء والمذاهب الإسلامية الأخرى .

مواضيع مشابهة

درس اليابان للصف التاسع لمنهج سلطنة عمان

bayanelm

صناعة السفن العمانية القديمة وانواعها

bayanelm

الحضارة الإسلامية في شرق آسيا وجنوبها الشرقي

bayanelm