معابر الحضارة الإسلامية إلى أوروبا (المعبر الأوروبي)
اتَّضح لنا سابقاً أن النهضة الأوروبية الحديثة نهلت من مَعين الحضارة الإسلامية في شتى جوانب الازدهار الحضاري، وذلك من خلال مَعْبرَيْنِ رئيسين هما : المعبر الإسلامي، والمعبر الأوروبي.
وقد تناولنا في المقالة السابقة انتقال الحضارة الإسلامية إلى أوروبا من خلال (المعبر الإسلامي)، وبقي لنا في هذا
الدرس أن نتناول المعبر الآخر، وهو (المعبر الأوروبي)، الذي تمثّل بصورة أوضح في صورتين هما : الحروب الصليبية،
وجزيرة صقلِّية.
فكيف تمكّن هذا المعبر من الوصول إلى أعماق الحضارة الإسلامية؟ وما المجالات الحضارية التي نقلها عن المسلمين؟
هذا ما نسعى إلى كَشْفه فيما يأتي:
1- انتقال الحضارة الإسلامية إلى أوروبا عبر الحروب الصليبية:
خاضت أوروبا في بلاد المسلمين حروبًا معُرفت في التاريخ باسم الحروب الصليبية، واستمرت قرابة القرنين من الزمن (١٠٩٦-١٢٩١م)، وكان هدفها السيطرة على حوض البحر المتوسط، والطمع في خيرات العالم الإسلامي، والسيطرة على طليطلة وجزيرة صقلية اللتين كانتا خاضعتين للحكم الإسلامي،
إلا أن أوروبا لم تتمكن من تحقيق أهدافها الاستعمارية في حروبها، وكسبت من اتصالها بالمسلمين ألوانًا من الفوائد الثقافية والاجتماعية والعسكرية والاقتصادية، وقد اعترف مؤرخو الفرنجة بهذا الكسب إذ يقول المؤرخ الأوربي كيرك (Kirk): ((إن للحروب الصليبية أهمية لا تقدر في تاريخ الثقافة بأوروبا؛ بسبب ما كان لها من عظيم الأثر في تفتيح أذهان الناس إلى مستوى الحضارة في الشرق الأوسط، ذلك المستوی الذي کان یفوق حضارة الغرب بکثیر)).
ومن أبرز الجوانب التي تأثر بها الغرب من خلال الحروب الصليبية :
أ- الآداب والعلوم والفنون:
كان تأثر الأوروبيين بالآداب والعلوم الإسلامية واضحًا، فقد وفد إلى المشرق الإسلامي العديد من المفكرين والأدباء والمترجمين الأوروبيين،الذين استمدوا أفكارهم وكتاباتهم من الحكايات التي تناقلها الناس في المشرق الإسلامي.
وفي زمن الحروب الصليبية أقبلت الإرساليات التنصيرية في أوروبا على دراسة اللغة العربية، ونشأ رجال اقتنعوا، بأن الطرق الحربية لا تجدي نفعًا في نشر الدين المسيحي؛ بسبب فشل الصليبيين العسكري.
كما تركت اللغة العربية أثرًا واضحًا في اللغات الأوروبية الحديثة، فنجد كثيرًا من مفردات هذه اللغات تعود جذورها
إلى اللغة العربية، ويظهر ذلك واضحًا في بعض أسماء الحيوانات والطيور، ومنها ما يرتبط بالفلك والكيمياء والنباتات، أو بالأقمشة والملابس، أو بالمأكل والمشرب، هذا عدا المصطلحات الخاصة بالطب والجراحة وموسيقى الحروب.
نماذج من بعض الكلمات التي لها أصول عربية:
الأصل العربي الكلمات
مر (أمارو) Amaro
عتيق (أنتيكو) Antice
طاولة (تافولا) Tavola
صابونة (سابونة) Sapone
قمرة (غرفة) (كاميرا) Camera
عمل بالأجر (أجرة) Agire
كستنائي (كستانيو) Castagno
ب- المجالات العسكرية:
نقل الأوروبيون عن المسلمين كثيرًا من الآلات والوسائل العسكرية فاستخدموا جوقات الموسيقى الملحقة بالجيش، وتعلموا استخدام الحمام الزاجل لإرسال المعلومات الحربية، واقتبسوا إشعال الأنوار احتفالاً بالنصر، وإجراء حفلات السباق، ولعب الخيل، كما حسّنوا من استخدامهم للمنجنيق والبارود، وأنواع المشتعلات والمفرقعات.
كما نتج عن احتكاك الصليبين بالفرسان المسلمين انتشار الأوسمة وشارات الفرسان مثل: شارات النسر ذي الرأسين، وزهرة الزنبق، والمفتاحين، تلك الشارات التي كانت من بعض عناصر الفروسية الإسلامية ومظاهرها في تلك الحقبة.
وفي مجال الملاحة البحرية تأثر الأوربيون بفنون الملاحة الإسلامية، ومن مظاهر ذلك تأثرهم يبعض المصطلحات العربية في الملاحة، مثل: (Arsenal) المأخوذة من دار الصناعة، و(Admiral) وأصلها أمير البحر.
ج- الزراعة والصناعة:
توصل الصليبيون في مجال الزراعة والصناعة والتجارة إلى نتائج أعظم مما وصلوا إليه في العلوم، فانتشرت نباتات
جديدة في البلدان الواقعة في غربي البحر المتوسط، مثل: السمسم، والذرة البيضاء، والليمون، والبطيخ، والمشمش،
ولهذه النباتات أسماء أوروبية محرَّفة عن لغات المشرق، كما أن أشجارًا أخرى، ومنتوجات شتى، انتشرت في الحقبة
نفسها في نواحي متفرقة من إسبانيا وصقلية. وعلى ساحل سوريا تعرَّف الصليبيون إلى نبات قصب السكر، الذي أخذ من ذلك الحين ينهض بدورٍ مهمٍّ في الحياة الاقتصادية، وفي تركيب الوصفات الطبية. وأدخل الصليبيون مع السكر الماءَ الممزوجَ بخلاصة الورد والبنفسج، وسواها من الزهور العطرة، وأنواع الحلويات، وقد نقلت مع معظم هذه المواد أسماؤها العربية.
بعض الكلمات الإنجليزية التي لها أصول عربية في مجال الزراعة والصناعة:
الأصل العربي الكلمات الإنجليزية
الحنظل Alhandal
ليمونادة Lemonade
یاسمين Jasmine
الكحول Alcohol
صندل Sandal
قطن Cotton
د- الملابس وصنوف أخرى:
لم تكن الأذواق الجديدة التي اكتسبها الأوروبيون مقتصرة على المأكل، بل نشأت عادات جديدة خاصة بالأزياء والملابس وأثاث المنازل، فأدخلوا إلى أوطانهم أنواعا مختلفة من البسط والسجاجيد والأنسجة الموشاة التي امتازت بها آسيا الغربية والوسطى، أما الأقمشة الموصلية (Muslin)، والبغدادية (Baldachin)، والدمشقية (Damask)، والشرقية (Sarcenet) فكان إقبال الناس عليها في أوروبا كبيرًا. وصنعت في أوروبا المرايا الزجاجية المطلية بأغشية معدنية فحلت بذلك محل المرايا المصنوعة من الفولاذ المصقول، ونقلوا إلى أوطانهم الملابس الأنيقة والمصنوعات المعدنية، والأصباغ النيلية والألوان الجيدة، وشاع كذلك عندهم استعمال الفرو والوبر، كما ظهر في أوروبا تقليد لصناعة الخزف والسجاد والأنسجة التي كانت شائعة في الشرق، كذلك أخذ استعمال الشبابيك الزجاجية الملونة يشيع يومئذ في الكنائس، أما المصنوعات الفنية الشرقية من الزجاج والفخار والذهب والفضة فقد أصبحت نماذج تحتذى في أوروبا.
2- انتقال الحضارة الإسلامية إلى أوروبا عبر صقلية:
تعد جزيرة صقلية المعبر الثالث الذي انتقلت عن طريقه علوم المسلمين إلى الغرب الأوروبي، وقد تهيأ ذلك لجزيرة صقلية بحكم تعدد عناصر السكان واختلاف لغاتهم، ووجود المسلمين الذين كانوا يتكلمون العربية، بالإضافة إلى عنصر آخر يوناني يتكلم اللغة اليونانية، وكان فيها أيضًا طائفة من العلماء الباحثين يعرفون اللاتينية، وبدخول صقلية تحت الحكم الإسلامي في القرن التاسع الميلادي أصبح للحضارة الإسلامية فيها شأن كبير.
وقد حكم المسلمون هذه الجزيرة ما يقارب ٢٦٠ سنة، غير أن المؤثرات الحضارية فيها قد امتدت إلى مائتي سنة أخرى، ومن الملاحظ أن انتهاء الحكم الإسلامي في صقلية لا يعني انتهاء حضارة العرب والمسلمين، بل بقيت الحضارة العربية الإسلامية مؤثرة وفاعلة في صقلية وبقية المناطق الإيطالية، وما حولها.
ولقد تمتعت – صقلية – خلال العهدين الأغلبي والفاطمي بحكم إسلامي مزدهر، فانتشرت فيها مظاهر الحضارة الإسلامية من مساجد وقصور وحمامات ومستشفيات وأسواق وقلاع، ودخلت فيها صناعات منها صناعة الورق والحرير والسفن والفسيفساء ذات الرخام الملون، إضافة إلى استخراج المعادن مثل الحديد والرصاص، كما كان للغة العربية وآدابها انتشار على نطاق واسع، وانتشرت العادات والتقاليد العربية، وعومل أهل صقلية معاملة إسلامية حضارية لم تشهدها صقلية في تاريخها، وقد استعاد النورمان هذه الجزيرة من العرب، فكانوا حريصين كل الحرص على إبقاء المسلمين فيها للاستفادة من
حضارتهم وخبراتهم العلمية والإدارية والمالية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، فاحتضن الملك روجر الأول (١٠٦١-١١٠١م) الثقافة العربية، وكتبت مراسيمه بالعربية إلى جانب اللاتينية، وسُك على أحد وجهي النقود كتابات بالعربية، وعلى الوجه الآخر كتابات لاتينية ويونانية.
وعامل روجر الأول المسلمين معاملة حسنة، وعمل على استمالتهم وحمايتهم وأقرهم على دينهم وأعيادهم، بل لم يمانع من تجنيد فرقة منهم في جيشه، حتى بلغ إلى أنه قد رفض الاشتراك في الحملات الصليبية على الشرق العربي رغم إلحاح البابا، كما أنه لم يُكرِه أحدًا من المسلمين في اعتناق الديانة النصرانية، يقول المؤرخ المعاصر ملاترا ((إن روجر لما فتح (باليرمو) وعد المسلمين بألا يؤذيهم بشيء، وأن لا يُكره أحدًا على تبدیل دینه)).
كما شجَّع العلم والفنون وساعد على ازدهار الثقافتين اليونانية والعربية وامتزاجهما، وشيَّد روجر الأول القصور والكنائس والحمامات والدور على النمط المعماري الإسلامي، أما روجر الثاني (٥٠٥-٥٤٩هـ/١١١١-١١٥٤م) فقد تأثر في كل مظاهر بلاطه بمظاهر الخلافة الفاطمية في مصر، فكان يظهر وعليه عباءة فاخرة مكتوب عليها بالحروف العربية الكوفية.
والجدير بالذكر أن العالم الجغرافي محمد الإدريسي قام بزيارة صقلية عام (٥٣٢هـ/١١٣٨م) فحظي عند روجر بالإِكرام والتقدير، وطلب الملك منه وضع كتاب وخريطة للعالم يعرف بهما موقعه منه، فمكث الإدريسي في صقلية نحو عشرين عامًا في أثنائها رسم للملك خريطة للعالم المعروف في عصره على دائرة فضية مسطحة طولها ثلاثة أمتار وعرضها متر ونصف المتر، كما أَلَّفَ له كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق الذي يصف هذه الخريطة، وقد ظل هذا الكتاب مرجعًا لعلماء أوروبا مدة زادت على ٣٠٠ سنة، وقد درس وليم الثاني (١١٨٤م) اللغة العربية، ورجع إلى مستشارين من العرب في أهم شؤونه.
ومن التأثير الحضاري الإسلامي الباقي إلى يومنا هذا في صقلية ذلك الطابع العربي والإسلامي في مدينة باليرمو، المتمثل في كثير من مظاهرها العمرانية والاجتماعية والثقافية.
كما نجد أن هناك حرصًا من الصقليين على إحياء العلاقات الحضارية بينهم وبين العرب، فقد افتتح سنة ١٩٥٩م في جامعة باليرمو قسم خاص لتعليم اللغة العربية وآدابها.