
خلفية تاريخية عن صراع الأغالبة والداعي أبي عبد الله في شمال إفريقيا
شهدت شمال إفريقيا في القرن الرابع الهجري (العاشر الميلادي) صراعًا سياسيًا ودينيًا عميقًا بين الدولة الأغلبيَّة والداعية الإسماعيلي أبي عبد الله، والذي كان يسعى لتوسيع دائرة الدعوة الشيعية الإسماعيلية وإقامة الدولة الفاطمية. بدأ هذا الصراع بسبب موقف حاكم مدينة ميلة، موسى بن عيَّاش، الذي كان يعارض الدعوة الإسماعيليَّة وشارك في المؤامرات التي دبرها الأغالبة للقضاء عليها. كانت ميلة، تحت حكم الأغالبة، بمثابة مركز عربي في قلب بلاد البربر كتامة، وكان بقاء هذه المدينة تحت سيطرة الأغالبة يشكل عائقًا كبيرًا أمام انتشار الدعوة الإسماعيلية في المنطقة.
الصراع الأول في ميلة:
في عام 289 هـ (902م)، شنَّ الداعي أبو عبد الله حربًا على مدينة ميلة بعد أن صعَّب الأغالبة تحركاته. استطاع الداعي أن يحقق انتصارًا كبيرًا على الحامية العسكرية الأغلبيَّة، ودخل المدينة في شهر ذي القعدة من نفس العام. إلا أن الأغالبة استعادوا المدينة سريعًا بعد هزيمتهم في بلدة “ملوسة” في العام التالي. هذا الصراع الأول بين الداعي والأغالبة كان مجرد بداية لسلسلة من المواجهات التي كان لها دور كبير في تحديد مصير المنطقة.
الانتصارات المتتالية للداعي:
في عام 290 هـ (903م)، انتصر الداعي أبو عبد الله في معركة ضد الجيش الأغلبي في المنطقة، وهاجم سطيف، وهي إحدى أهم المدن التي كانت تشكل قاعدة للقوات الأغلبيَّة. بعد أن استولى على سطيف، تابع أبو عبد الله حملاته العسكرية، مستهدفًا الحصون الغربية للأغالبة في إفريقية.
في العام 293 هـ (906م)، استولى أبو عبد الله على مدينة “طُبنة” التي كانت واحدة من أكبر وأغنى المدن الأغلبيَّة، مما ساعده في فتح ثغرة في الحصون التي كانت تحمي إفريقيا الغربية. تزامن ذلك مع حملة أخرى شملت الاستيلاء على “بلزمة”، وهو ما زاد من قوة الحملة الإسماعيلية.
الحصن الأخير: حصن باغاية
في عام 296 هـ (908م)، اقتحم الداعي وجنوده حصن باغاية في أقصى إفريقية بين قسنطينة ومجَّانة، وهو آخر حصن كبير كان يحمي إفريقيا الغربية. بعد أن استولوا عليه، تحركوا باتجاه مدينة الأربس، حيث ألحقوا هزيمة قاسية بالجيش الأغلبي، وفتحت هذه الانتصارات الطريق أمام أبو عبد الله لتحقيق هدفه الكبير في إزاحة الأغالبة من السلطة.
سقوط الدولة الأغلبيَّة:
في أعقاب تلك الانتصارات، أصبح الوضع السياسي في الدولة الأغلبيَّة غير مستقر. وعندما سمع أمير إفريقية، أبو مُضر زيادة الله الثالث، عن الهزائم المتتالية، فرَّ إلى القيروان، مما أدى إلى سقوط النظام الأغلبي. استطاع أبو عبد الله الشيعي أن يزيل السيطرة الأغلبيَّة الفعليَّة، وأبطل ذكر الخليفة العباسي في خطبة الجمعة في القيروان، وهو ما يعني إلغاء السلطة العباسيَّة في تلك الأراضي.
التحول السياسي في إفريقية:
بعد انهيار الدولة الأغلبيَّة، بدأ الداعي أبو عبد الله في تنظيم الحكم في المنطقة وفقًا للنظام الشيعي الإسماعيلي. حرص على إقامة نظام جديد يركز على تطبيق الشريعة الإسماعيلية، وتأكيد سلطة الدولة الفاطمية في المنطقة. كانت سياسته تقوم على التهدئة، فلم يُلزم أهل السنة باتباع المذهب الإسماعيلي، بل لجأ إلى الإقناع والدعوة بالحجة والبيان. كما أضاف علامات شيعية على الحياة اليومية، مثل إضافة الصلاة على آل بيت النبي في خطبة الجمعة وتعديل الآذان.
إعلان تأسيس الدولة الفاطمية:
في عام 296 هـ (909م)، قرر الداعي أبو عبد الله استدعاء الإمام المستور عبيد الله المهدي من مركز الدعوة في سلميَّة. بعد معركة ناجحة مع قوات والي سجلماسة، تم تحرير المهدي من الحجز، وبدأت مرحلة جديدة في تاريخ الدولة الفاطمية. في 6 ذو الحجَّة من عام 296 هـ (909م)، تم تنصيب عبيد الله المهدي في مدينة رقادة وأعلن نفسه “المهدي أمير المؤمنين”، وتم بذلك تأسيس الدولة الفاطمية رسميًا في شمال إفريقيا.
الخاتمة:
نجح أبو عبد الله في القضاء على الدولة الأغلبيَّة وإقامة الدولة الفاطمية في شمال إفريقيا بعد حرب استمرت خمس سنوات. وقد أظهرت هذه الصراعات العسكرية كيف أن الدعوة الإسماعيلية نجحت في التأثير على الأوضاع السياسية في المنطقة، وتأسيس دولة جديدة اعتمدت على المذهب الشيعي الإسماعيلي. وبذلك دخلت إفريقية مرحلة جديدة من تاريخها، بقيادة الدولة الفاطمية، التي استمرت في السيطرة على شمال إفريقيا والمناطق المجاورة، وفتحت الطريق لانتشار الفاطميين في المشرق الإسلامي.
الرابط المختصر للمقال: https://bayanelm.com/?p=30440