في عالم الأعمال الحديث، اعتدنا أن نرى الأثرياء وأصحاب الشركات الكبرى كأيقونات لا تمس. أسماء مثل إيلون ماسك، جيف بيزوس، وبيل غيتس ارتبطت بالابتكار والسيطرة، وأصبحوا في أذهان الناس رموزًا للحرية الاقتصادية والقوة الفردية. لكن في الصين، حيث يظل الحزب الشيوعي هو الحاكم المطلق، القصة مختلفة تمامًا.
لا أحد فوق الدولة، ولا حتى جاك ما، الرجل الذي كان يُعرف عالميًا باسم “جيف بيزوس الصيني”.

من رفض متكرر إلى إمبراطورية تجارية

وُلد جاك ما عام 1964 في مدينة هانغتشو الصينية. كان أستاذًا متواضعًا للغة الإنجليزية، وتعرض للرفض في عشرات الوظائف، بينها وظيفة بسيطة في سلسلة مطاعم “كنتاكي”. لكن عام 1999 شكّل نقطة التحول؛ حين أسس موقعًا إلكترونيًا للتجارة من شقته الصغيرة.
ذلك الموقع تحول لاحقًا إلى عملاق التجارة الإلكترونية علي بابا، الذي لم يكن مجرد نسخة من “أمازون”، بل أصبح أكبر منها على صعيد بعض المؤشرات.
في “يوم العزاب” لعام 2020، سجلت الشركة مبيعات بلغت 74 مليار دولار خلال 24 ساعة فقط، ما جعل علي بابا أيقونة للاستهلاك الصيني وقوة لا يمكن تجاهلها في الاقتصاد العالمي.
تحول جاك إلى نجم عالمي، وشارك مسرحه مع مشاهير هوليوود، وأصبح وجهه مألوفًا داخل الصين وخارجها.

لحظة الصدام: خطاب شنغهاي

لكن النجاح الكبير قاده إلى خطأ لم يكن متوقعًا. في 24 أكتوبر 2020، ألقى جاك خطابًا في شنغهاي أمام قادة الأعمال والسلطات الصينية.
في خطابه، وصف النظام المالي في بلاده بأنه “قديم”، وانتقد بشكل مباشر السياسات التنظيمية للحكومة الصينية. كان ذلك بمثابة تحدٍ علني للسلطة، أمر لم يكن مألوفًا في الصين.

رد بكين جاء سريعًا وصادمًا. خلال أيام، ألغت الحكومة الطرح العام الأولي لشركة Ant Group التابعة لجاك ما، والذي كان من المفترض أن يكون أكبر اكتتاب في التاريخ بقيمة 37 مليار دولار.
خسرت الشركة قيمتها، وتراجعت ثروة جاك ما بشكل حاد. لكن الأسوأ كان قادمًا.

الاختفاء الغامض

بعد أسابيع قليلة من الخطاب، اختفى جاك تمامًا.

  • لا ظهور إعلامي.
  • لا نشاط على منصاته الرقمية.
  • لا مقابلات.

تحولت قصة رجل الأعمال الأشهر في الصين إلى لغز عالمي. انتشرت الشائعات: هل تم احتجازه؟ هل هرب من البلاد؟ هل تمت تصفيته؟
لكن بكين التزمت الصمت.

خلال هذه الفترة، تهاوت أسهم “علي بابا”، وأدرك المستثمرون أن أي نجاح اقتصادي في الصين يظل هشًا أمام سلطة الحزب. الرسالة كانت واضحة: لا أحد فوق بكين.

عودة باهتة

في يناير 2021، وبعد ثلاثة أشهر من الغياب، ظهر جاك في فيديو قصير. لكن صورته كانت مختلفة تمامًا:

  • بدا أنحف وأكثر هدوءًا.
  • تحدث من نص مكتوب بعناية.
  • أشاد بقيادة الحكومة والتعليم الريفي.

لم يذكر أسباب اختفائه، ولا مصير الطرح العام الملغى. كان واضحًا أن الرجل الذي تحدى السلطة لم يعد نفسه، بل نسخة أكثر حذرًا وهادئة.

ما وراء الكواليس

في الكواليس، كان جاك يدفع ثمن “جرأته”:

  • تنحى عن مناصبه القيادية في “علي بابا”.
  • وافقت شركته على دفع غرامة 2.8 مليار دولار في قضية احتكار.
  • خسر السيطرة الفعلية على إمبراطوريته، بعدما دخلت كيانات مدعومة من الدولة على الخط.

انخفضت ثروته من 61 مليار دولار إلى نحو 25 مليار دولار فقط. أي أن نصف ثروته تبخر في أقل من عام.

من رجل أعمال إلى شخصية غامضة

اليوم، نادرًا ما يظهر جاك ما علنًا. شوهد أحيانًا في اليابان أو إسبانيا أو تايلاند، بعيدًا عن صخب السياسة والاقتصاد.
تفرغ لمشاريع زراعية وأعمال خيرية، وبدأ يمارس الرسم والأنشطة الثقافية. يبدو أن الرجل الذي كان يرمز للنجاح والانفتاح الاقتصادي في الصين، تحوّل إلى شخصية شبه منسحبة من المشهد.

الدرس الأعمق

قصة جاك ما تحمل دلالات أكبر من مجرد سقوط ملياردير. إنها رسالة واضحة من النظام الصيني:

  • الثروة الخاصة ليست ضمانًا للحماية.
  • النفوذ الشخصي مهما بلغ حجمه، يظل مرهونًا برضا الحزب الشيوعي.
  • التحدي العلني للسلطة قد يُفقدك كل ما بنيته في لحظة.

في الغرب، قد يتمتع رجال الأعمال بحرية انتقاد الحكومات، بل قد يزداد نفوذهم بذلك. لكن في الصين، الوضع مختلف تمامًا. النظام يرى نفسه فوق الجميع، ويعتبر أي نقد تهديدًا للاستقرار يجب التعامل معه بسرعة وبقوة.

الخاتمة

قصة جاك ما تجسد الصراع بين رأس المال الفردي والسلطة السياسية المطلقة. لقد بنى إمبراطورية هائلة من الصفر، وجعل الصين وجهة اقتصادية كبرى، لكنه وقع في المحظور حين تحدى الدولة علنًا.

اختفاؤه وخسارته المليارات يذكران العالم بأن الصين ليست كالولايات المتحدة أو أوروبا. هناك، حتى أقوى المليارديرات يعيشون في ظل الحزب، لا العكس.

وهكذا، يظل الدرس الأهم:
بغض النظر عن مدى ثرائك أو قوتك أو شهرتك… في الصين، الحزب هو المنتصر دائمًا.

Visited 12 times, 1 visit(s) today

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *