انجازات الاوائل طريق المستقبل
إن ما تشهده الإنسانية اليوم من تقدم في جميع محالات الحياة ما هو إلا نتاج لتراكم الإنجازات الحضارية منذ ظهور الإنسان على وجه الأرض، مستفيدًا من أفكار عقله، ومستعينًا بقوة جسده في سبيل إعمار هذا الكون.
وعلى الرغم من أن الحضارات تنسب إلى مواقع معينة إلا أنها تبقى جهدًا إنسانيًّا مشتركًا يتكافل الإنسان في بنائه مع أخيه
الإنسان للسير مرحلة مرحلة، والانتقال من حسن إلى أحسن.
وقد تهتم أمة بناحية حضارية دون أخرى، وتسهم من ثم على قدر طاقتها في تشييد صرح هذه الحضارة الإنسانية التي ينعم بها الجميع على اختلاف المؤهلات والظروف، إذ لا حياة ولا استقرار ولا استمرار للجهد الإنساني الكبير إن لم يسنده الأفراد في كل مكان وزمان. وهكذا تظهر بوضوح كلي تلك الصفة الاجتماعية التعاونية التي تربط الإنسان بأخيه الإنسان مهما اختلف اللون وتميز العرق وبعدت المسافات؛ ومن هنا كانت الحضارات العالمية للإنسان نتيجة جهد الإنسان وفي خدمة الإنسان.
يقصد بالحضارة Civilization:
ثمرة كل جهد يقوم به الإنسان لتحسين ظروف حياته المادية والمعنوية، سواء أبقصدٍ كان ذلك أم بغير قصد.
وتشمل جانبين: الجانب المادي أو التقني للحضارة، والجانب المعنوي لها.
١- الحضارة من الاستقرار إلى التمدن :
بدأ الإنسان في الاستقرار منذ العصور القديمة (بداية من ٣٥٠٠ ق.م) في مستوطنات بسيطة تعبر عن رغبته في إقامة تجمعات سكانية، وهذا شكّل نقطة تحول مهمة في تاريخ الإنسانية، الأمر الذي اعتبره المؤرخون نقلةً نوعيةً في حياة البشر وانتقالهم من حياة الترحال إلى حياة الاستقرار.
ونتيجة لاستقرار الإنسان، فقد اكتشف الزراعة، وتربية الحيوانات، فبدأت بالتالي تظهر مواقع عديدة للاستقرار
نسبت إلى أقدم الحضارات كتلك التي قامت في بلاد الرافدین.
كما أخذت الحضارات المجاورة للشرق الأدنى طريقها إلى حياة الاستقرار، فظهرت بمرور الزمن قرى عديدة على
سواحل بلاد الشام، وفي مصر الفرعونية، وعلى سواحل آسيا الصغرى وبلاد اليونان.
أما بالنسبة للخليج العربي فقد استقر الإنسان بشبه الجزيرة العربية في أقدم مستوطنات يرجع تاريخها إلى العصور الحجرية،
وذلك منذ الألف العاشرة قبل الميلاد، فاستوطن أهل عمان في مواقع عدة لا تزال آثارها شاهدة على العمران القديم إلى يومنا هذا.
وقد بدأت المناطق الساحلية للشرق الأدنى القديم، منذ الألف الثانية وبداية الألف الأولى ق.م، في التحول إلى منطقة تمدن
وعمران كثرت فيها القرى والمدن التي لعبت دورًا مهمًّا في تاريخ الإنسانية ومنها رأس شمرا، بيروت، صيدا، صور … مسايرة
لظهور العمران على مجرى نهري دجلة والفرات: نينوى، تل الحريري (ماري) آشور، بابل، أور …
وقد نمت مع مرور الزمن حركة التمدن، وانتشر العمران على طول سواحل البحار وعلى ضفاف الأنهار، كما أخذت حركة
الاستيطان طريقها إلى المناطق الداخلية بقصد استغلال الأراضي الزراعية. وأصبحت الحضارات القديمة لاسيما اليونانية والرومانية تزخر بشبكة من طرق المواصلات تربط بين مجموعة من المدن المتطورة من حيث التهيئة العمرانية حسب تخطيط محكم للموقع وتقسيمه بصفة منظمة إلى أحياء سكنية ومنشآت عمومية.
استنتج :
تدل مواقع الاستيطان القديمة في عمان على :
استمرارية الاستقرار في عمان منذ العصور الحجرية.
وجود علاقات تجارية وثقافية مع الأقاليم المجاورة (بلاد الرافدين، وادي النيل، الهند، دلمون) كما دلت عليها الآثار المادية.
مدى التطور العمراني الذي وصلت إليه المجتمعات الأولى وذلك من خلال تصميم المنازل والأبراج وهيكلة الحياة الاجتماعية.
نمو التفكير الديني من خلال بناء المقابر وتهيئة المعابد والاعتناء بتقنية بنائها.
٢- مقومات الحضارة البشرية:
يرتبط صنع الحضارة وقيادتها بعوامل عدة تؤدي إلى قيامها ونموها وازدهارها، وبعض هذه العوامل يحظى بخصوصية معينة
وتأثيرات قوية، ويلعب دورًا مهمًّا في قيام بعض الحضارات، إلا أن هناك مقومات أساسية لابد من توافرها لقيام أية حضارة بشكل عام، وتتمثل في الآتي:
أ) الزمن :
يعتبر عنصر الزمن أساسًا في قيام الحضارات، إذ أن ما تتوصل إليه الحضارة من إنجازات واكتشافات وإبداعات واختراعات بمختلف مستوياتها بحاجة إلى فترة من السنين (الزمن) لكي يظهر وبشكل واضح على اعتبار تراكمي، فلو أخذنا على سبيل المثال النظام السياسي الروماني الذي يعتبر إحدى المميزات الرئيسة للحضارة الرومانية نجده قد مر بثلاث مراحل ابتداء من المرحلة الفوضوية حيث الأكواخ المتناثرة مرورًابمرحلة النظام الملكي وظهور مؤسساته (الملك والمجلس الاستشاري ومجلس الشعب) وصولاً حتى تدوين القانون الروماني في مطلع القرن الخامس قبل الميلاد.
ب) قدرة الإنسان وفكره :
انفرد الإنسان بالفكر والعقل عن سائر المخلوقات، وتمكن بمرور الزمن من رصد الكثير من الظواهر والأحداث وربطها ببعضها
بعضا، وكانت قدرته على فهم الأشياء وإدراكها قد بدأت بسيطة ومتواضعة إلا أنها ازدادت مع الممارسة والاستعمال، وهو ما أدى إلى تنشيط الفكر والوصول إلى مرحلة الإبداع. لذلك فإن التفكير المنطقي المعقول يعد عنصرًا فعالا في الإنجازات الحضارية، فالاختراعات العظيمة والمكتشفات والإبداعات والمنجزات كانت نتاجا لظهور عقول رائدة متميزة وجهت الطاقات البشرية نحو الإبداع، ومن هنا شهدت الحضارة الإنسانية ظهور فئة من القادة المستنيرين حملت على عاتقها قيادة العمل الحضاري.
ج) البيئة :
يتأثر الإنسان في الغالب ببيئته فقد تكون محفزة له أو مثبطة لهمته على العمل والصنع والإنتاج والابتكار والإبداع، إلا أنه
تغلَّب عليها في أحيان كثيرة فمهد الأرض وزرعها واستخرج الماء للشرب والري، وابتدع ألوانا من النشاط لم تهيئ لها البيئة أسبابها، فصنع واخترع مما في البيئة ومما هو خارج البيئة.
كما أن التفاعل بين الإنسان والبيئة، شكّل عاملاً مهما في نشوء الحضارات، لذا فإن التحدي مثل دافعًا ومحركًا نقل الأمم
والشعوب من حالة السكون (الركود) إلى حالة الحركة الدافعة، وليس أدل على ذلك من تحدي العمانيين الأوائل لظروف بيئتهم، وهوما جعلهم يستخرجون المياه من أعماق الأرض ويجلبونها من أماكن بعيدة لتصل إلى مزارعهم بواسطة القنوات المائية (الأفلاج).
٣- الإنجاز الحضاري منارة الحاضر .. وبناء المستقبل:
يعد التطور الحاصل في الإنجازات الحضارية للبشرية طريقا آمنًا للوصول إلى المستقبل، وهذه الإنجازات ليست حكرا على مجال دون آخر وإنما شملت جميع المحالات السياسية والاقتصادية والفكرية.
ففي المجال السياسي كان لابد للإنسان أن يعيش مع الجماعة، ولذلك اتجه الإنسان منذ استقراره على الأرض نحو الاجتماع
والاتحاد مع غيره من الناس، فقد تنبه إلى أن عزلته تعرضه للأخطار، كما أنه لا يستطيع القيام بمعظم أعماله منفردًا عن غيره، إضافةً إلى أن أداءه يتحسن بالتعاون أكثر من العمل الفردي. وقد بدأت الجماعات البدائية في التوجه نحو التنظيم أثناء
تعرضها للخطر الناجم عن مهاجمة جماعة أخرى، وهو ما دفعها إلى تعيين زعيم لرئاستها وتنظيم الدفاع عنها، فنمى لديها الشعور بالانتساب إلى القبيلة والأرض.
ثم تطورت تلك الجماعات للوصول إلى أنظمة حكم حسب وضعها ومدى أخذها بأسباب الحضارة، وبدأت بالتالي في تحديد
السلطة المنظمة للمجتمع، وتكونت مجموعة العادات والتقاليد والأعراف التي توصلت إليها المجتمعات عبر زمن طويل من
التجارب، فأقرتها وتناقلتها وأصبحت الأساس الثابت للعلاقات الاجتماعية داخل هذه المجتمعات.
كما ظهرت أيضًا الشرائع الدينية كمصدر مهم من مصادر القوانين، ثم ظهرت عنها القوانين بالتزامن مع ظهور الدول
ومؤسساتها، ولعب المفكرون والفلاسفة دورًا في ترسيخ القوانين القائمة على النظرة العقلانية للدولة والمجتمع والمؤدية إلى الخير والصلاح، وهكذا بدأت البشرية تتجه نحو النظم السياسية الأكثر تنظيمًا لمجتمعاتها، الأمر الذي جعل الأفراد يشاركون في تسيير شؤون مجتمعاتهم، نظرًا لشعورهم بالانتماء إليها، والحفاظ على مكتسباتها، فنشأت لديهم هوية مشتركة صقلتها وحدة التاريخ والأرض والمصالح المشتركة، ومن هنا بدأ مفهوم المواطنة في الظهور بما يستوجبه من حقوق وواجبات .
أما الإنجازات الحضارية للإنسان في المجال الاقتصادي فقد بدأت بالتطور منذ أن عرف الاستقرار وتعلم الصيد واخترع الأدوات والآلات كالرماح والقسي والأفخاخ والمصائد والمقاليع، وفي الوقت الذي كان الرجال يقومون خلاله بأعمال الصيد استطاعت النساء اكتشاف الزراعة من خلال قيامهن بأعمال البيت، وذلك بعد اكتشاف فوائد المحاصيل التي تنبت في الأرض الأمر الذي تطلب اختراع أدوات زراعية مثل الفأس والمحراث لحراثة الأرض، فأدى ذلك إلى تغير حياة الناس وتقدمها.
ونظرًا لحاجة الإنسان إلى الملابس فقد طوَّر أدوات خاصة بالحياكة، كما توصل إلى صنع أدوات يدافع بها عن نفسه من المعادن والصخور التي وجدها في بيئته، كما تمكن من بناء بيته من الحجارة والطوب (الطفال).
وبدأ الإنسان الإنتاج والعطاء مستفيدًا من محاصيله الزراعية ومستأنسًا بعض الحيوانات لاستخدامها وسيلة للنقل، فدخل بالتالي في علاقات تجارية مع غيره فكانت البدايات وفقًا لنظام المقايضة إلى أن تم اختراع وسيلة أسرع لعمليات التبادل التجاري، فأخذت المعادن تحل محل السلع العينية فأصبحت هناك عملات متداولة بين الناس تطورت فيما بعد في
الأشكال والأنواع والأحجام والأوزان بما يتناسب وحركة البيع والشراء .
أما في مجال الإنجازات الفكرية فيعد أبرزها اختراع الكتابة باعتبارها وسيلة التقارب والتواصل بين الأفراد والجماعات، وقد بدأت برسم أشكال الأشياء للدلالة عليها، وبذلك بدأ الإنسان في التعبير عمّا يجول في مخيلته من أفكار يريد التعبير عنها والحفاظ عليها من الاندثار أو إبلاغها للآخرين، فابتكر السومريون في بلاد الرافدين أقدم كتابة مع نهاية الألف الرابعة (٣٣٠٠ق.م) على شكل رموز تكتب على ألواح طينية بآلة تشبه المسمار، ولذا فقد عرفت بالكتابة المسمارية، كما ظهرت الكتابة الهيروغليفية في مصر الفرعونية مع بداية الألف الرابعة ق.م .
ونظرًا لأهمية الكتابة فقد اعتبر المؤرخون ظهورها تحديدًا لنهاية عصور ما قبل التاريخ وبداية العصور التاريخية.
وقد تطورت الكتابة بابتكار الحروف الأبجدية، مما يشير إلى رقي الحضارة وتمكنها من الوصول إلى حل جذري يخرج الإنسانية من طور استعمال آلاف الرسوم والرموز والصور إلى طور الحروف، وقد حدث ذلك مع نهاية الألف الثانية ق.م (حوالي ١٢٠٠ق.م)،
عندما تمكن سكان المدن الفينيقية من ابتكار أول أبجدية مكونة من ٢٢ حرفًا فقط، سهلت كل ما ينطق به اللسان في لغتهم السامِّية.
ثم أخذت هذه الأبجدية طريقها إلى الشعوب الأخرى، وأصبحت كتابةً معروفة في حوض البحر الأبيض المتوسط عندما
اقتبسها اليونانيون ثم الرومان مضيفين إليها الأحرف الصوتية بدلاً من الحركات التي تلفظ ولا تكتب كما في اللغة الفينيقية واللغات السامية الأخرى .
أما الفتوحات الإسلامية فقد أسهمت في نشر الأبجدية في صيغتها العربية في أعماق آسيا وأفريقيا، وكذلك أوروبا عندما دخل المسلمون الأندلس.
كما ظهرت الفنون لتلخص الحياة البدائية التي بدأت مظاهرها في استعمال الأصباغ والحلي والوشم والتصوير
والنحت والبناء والفنون الشعبية، فأخذت تتطور مع تطور الحضارة الإنسانية حتى وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم من تقدم
وازدهار، معبرة عن أذواق الناس ونظرتهم للحياة والجمال.
ومثلت الرحلات الكبرى التي قام بها القدماء إنجازًا فكريًّا آخر يضاف إلى الحضارة الإنسانية، حيث تم اكتشاف أراض جدیدة،
وطرق بحرية سهلت التواصل بين الشعوب، وكانت أولى الرحلات تلك التي قام بها الفينيقيون في القرن السادس ق.م،
عندما قاموا برحلة بحرية حول القارة الأفريقية ابتداءً من أحد الموانئ المصرية المطلة على البحر الأحمر، ومرورًا بسواحل القارة
الأفريقية وصولاً إلى مضيق جبل طارق والدخول في البحر الأبيض المتوسط حتى وصولهم مصر نقطة الانطلاقة الأولى، وبذلك تم تحقيق أول دورة بحرية حول القارة الأفريقية بأكملها، الأمر الذي يشير إلى تطور الملاحة في تلك الفترة، وتوالي الرحلات الاستكشافية.
وعلى الرغم من التنافس بين الحضارات، وتأثيره بصورة سلبية في بعض النواحي السياسية والاجتماعية، إلا أنه في الجانب الآخر يحقق أثرًا إيجابيًّا في التمازج والتواصل والأخذ والعطاء بين تلك الحضارات. وأبرز مثال على تواصل الحضارات وتأثيرها المتبادل ذلك الإنجاز الذي حققه الإسكندر المقدوني، عندما أسس إمبراطورية شملت حضارات مختلفة عن الحضارة اليونانية، كالحضارة الفرعونية في مصر وحضارات بلاد الشام، وكذلك الحضارتين الفارسية والهندية، الأمر الذي أدى إلى التمازج الثقافي بین هذه الحضارات جمیعها.
وهكذا يمكن القول بأن الإنجازات الحضارية التي حققها الأوائل هي الأساس لما تشهده البشرية اليوم وهي الطريق نحو بناء
المستقبل إكمالاً لمسيرة الإنسان الحضارية.
٤- التقدم الحضاري والتطور التكنولوجي:
إن التقدم الحضاري الذي نشهده اليوم ما هو إلا جزء من (المنظومة الحضارية) التي ظهرت عبر عصور التاريخ المختلفة مثل
حضارات وادي النيل وبلاد الرافدين، وشبه الجزيرة العربية، وحضارات الهند والصين واليونان، والتي شهدت تطورًا واضحًا
للفكر البشري؛ وتواصل الإنجاز الإنساني بقيام الحضارة الرومانية، ومن بعدها الحضارة الإسلامية التي انتقلت بها البشرية إلى مراحل مهمة للغاية، حيث وضعت الأصول الأولى لمعظم العلوم والتقنيات التي نشهدها اليوم، ونتج عنها إشعاع حضاري أفاد العالم بأسره وأوروبا بصفة خاصة، وبالتالي بدأ العالم ينتقل إلى عصر حضاري جديد اتسم بالسرعة المذهلة، ليصل من الآلة البسيطة إلى الاتصالات ثم الذّرة والكمبيوتر والهندسة الوراثية، وبذلك كانت الحضارة الجديدة حضارة للبشرية جمعاء وحضارة لكل العصور.
ويشهد عالم اليوم تطورات هائلة ومتسارعة في العلم والتقنية أثرت وتؤثر في جميع نواحي الحياة، وأصبحنا نعيش في مرحلة
استثنائية من التاريخ البشري، مرحلة تتسم بالتسارع بفعل الثورة العلمية والتقنية التي تجتاح العالم في محالات الفضاء والاستشعار عن بعد، والحاسبات الآلية، والبث التلفزيوني عبر الفضائيات وغيرها.
كما يشهد العصر الراهن الاتجاه نحو الاستثمارات الضخمة في مجال العلم وبحوث التطوير، سواء عن طريق الشركات عابرة
الحدود والقارات أم عن طريق الدول والمجتمعات التي تولي العلم والتقنية أولوية في خططها التنموية، تداركا منها لمسايرة عصر الحضارة التقنية وتطبيقاتها المثيرة التي ستضع بصماتها بشدة على نوعية الحياة في المستقبل.