
القاضي الفاضل: الوزير الأديب الذي أسس الفتح بالقلم
عبد الرحيم البيساني، المعروف بلقب “القاضي الفاضل”، يعد من أبرز الشخصيات التاريخية في العصر الأيوبي، حيث حمل على عاتقه العديد من المهام السياسية والثقافية والإدارية الهامة في زمن السلطان صلاح الدين الأيوبي. لم يكن القاضي الفاضل مجرد وزير وكاتب حكومي، بل كان من الأئمة الكتّاب الذين أسهموا في تاريخ الفكر العربي والإسلامي، وتعد حياته ومسيرته نموذجًا للعلاقة المثالية بين الأدب والسياسة. في هذا المقال، سنتعرف على حياة القاضي الفاضل، إنجازاته، وفاته، وأثره الباقي حتى يومنا هذا.
مولده ونشأته
وُلد عبد الرحيم البيساني، الذي اشتهر بلقب “القاضي الفاضل”، في عام 526 هـ في مدينة عسقلان التي تقع شمال غزة بفلسطين. نشأ في بيئة علمية، حيث كانت مدينة عسقلان تعد من أهم مراكز الثقافة والعلم في ذلك العصر. انتقل الفاضل في مرحلة مبكرة من حياته إلى الإسكندرية، ثم إلى القاهرة، حيث نشطت فيه حركة العلم والمعرفة. ومن القاهرة بدأ القاضي الفاضل رحلته العملية في دواوين الدولة الأيوبية.
مكانته في دولة صلاح الدين الأيوبي
دخل القاضي الفاضل إلى دائرة السلطة في الدولة الأيوبية في وقتٍ حساس، إذ كان السلطان صلاح الدين الأيوبي يسعى إلى بناء دولة قوية. وقد عرف عن القاضي الفاضل بلاغته وفصاحته التي جعلته محط إعجاب السلطان صلاح الدين. كان القاضي الفاضل يتمتع بقدرة فائقة على الكتابة والإقناع، مما جعله يتولى مناصب كبيرة في إدارة الدولة، وكان له دور كبير في الكتابة السياسية والإنشائية التي أسهمت في إدارة الشؤون الداخلية والخارجية.
وقال عنه السلطان صلاح الدين الأيوبي: “لا تظنوا أني فتحت البلاد بالعساكر، إنما فتحتها بقلم القاضي الفاضل”. كما قال في رواية أخرى: “لا تظنوا أني ملكت البلاد بسيوفكم، بل بقلم القاضي الفاضل”. هذه العبارات تعكس أهمية القاضي الفاضل في بناء الدولة الأيوبية، حيث كان يعتبر أحد الأعمدة الرئيسية التي ساعدت السلطان في تحقيق النجاح على الصعيدين العسكري والإداري.
إنجازات القاضي الفاضل في الكتابة والإدارة
أُعجب الجميع بفصاحة القاضي الفاضل وبراعته في الكتابة، وقد وصفه المؤرخ العماد الأصفهاني قائلاً: “رَبُ القلم والبيان واللسان، والقريحة الوقادة، والبصيرة النقادة، والبديهة المعجزة”. وُصِف القاضي الفاضل بأنه من أفضل كتّاب العصر، وابتكر أساليب فنية رائعة في الإنشاء والكتابة، ما جعله متفوقًا على كثير من معاصريه. وقد أصبحت أعماله نموذجًا يحتذي به الأدباء في تلك الحقبة.
كانت مهام القاضي الفاضل لا تقتصر على الكتابة فقط، بل كان أيضًا مستشارًا للسلطان صلاح الدين في العديد من القضايا السياسية والإدارية. لقد شغل منصب وزير وكتبه في دواوين الدولة الأيوبية. وكان له دور كبير في تطوير السياسات الداخلية، مثل تحسين النظام القضائي، وتنظيم الأمور المالية والإدارية، بالإضافة إلى اهتمامه الكبير بتطوير التعليم.
عباراته المأثورة
كانت للقاضي الفاضل العديد من العبارات المأثورة التي لا زالت تتداول حتى اليوم. من أبرز هذه العبارات ما قاله في وصف الكتابة:
“إنِّي رأيتُ أنَّه لا يكتُبُ إنسانٌ كتابًا في يومِه؛ إلاَّ قالَ في غدِهِ: لو غُيِّرَ هذا لكان أحسنَ، ولو زِيدَ كذا لكان يُستَحسَنُ، ولو قُدِّمَ هذا لكان أفضلَ، ولو تُرِكَ هذا لكان أجملَ.”
هذه العبارة تعكس التفكير النقدي والإبداعي للقاضي الفاضل. وقد كانت هذه العقلية النقدية جزءًا من شخصيته الأدبية التي جعلت منه كاتبًا مميزًا في عصره. كما يعكس هذا الاقتباس المبدأ الذي كان يعيشه في حياته اليومية، حيث لم يكن يرضى بالكمال، وكان دائم البحث عن الأفضل.
وفاته
توفي القاضي الفاضل في عام 596 هـ عن عمر يناهز 70 عامًا. وقيل إنه كان قد أمر بإصلاح الحمام في وقت السحر، وعندما أخبرته ابنته بذلك، وجدته ساكتًا، وهو ما أثار خوفها. وقد ظل صامتًا لفترة طويلة حتى ارتابت، وعندما اقتربت منه وضعَت يدها عليه ليجدها قد فارق الحياة، حيث توفي أثناء الظهر. كانت وفاته صدمة كبيرة للمجتمع الأيوبي، وكان يُنظر إليه كرمز من رموز الفكر والإبداع في الدولة الأيوبية.
تخليده
تخليدًا لاسم القاضي الفاضل، أُطلق اسم “الفاضلية” على مدرسة تاريخية في مدينة طولكرم بفلسطين، التي أسسها لتعليم الأجيال القادمة. وقد كانت هذه المدرسة تحمل الإرث الفكري للقاضي الفاضل، إذ أنها كانت تهدف إلى تطوير العقلية النقدية والتربوية، تمامًا كما كان القاضي الفاضل يسعى دائمًا لنشر العلم والفكر.
أثر القاضي الفاضل على الأدب العربي والإسلامي
لم يقتصر تأثير القاضي الفاضل على العصر الأيوبي فحسب، بل امتد أثره على الأدب العربي والإسلامي بشكل عام. فقد كانت أعماله محط إعجاب ودرس للعديد من الأدباء والمفكرين الذين جاءوا بعده. كان القاضي الفاضل يكتب بأسلوب يجمع بين البلاغة والفصاحة مع عمق الفكر، وهو ما جعله شخصية متميزة في مجال الكتابة.
وكانت كتابات القاضي الفاضل من أرقى أنواع الإنشاء في عصره، حيث استخدم الفكرة والبلاغة في أسلوب واحد، مما جعله نموذجًا يُحتذى به في فن الكتابة. ولقد أثرت أساليبه في الكتابة على العديد من الأدباء في العصور التالية، ولا يزال تأثيره قائمًا حتى يومنا هذا.
الخاتمة
القاضي الفاضل، عبد الرحيم البيساني، يعد أحد أعلام الفكر والسياسة في العصر الأيوبي. من خلال بلاغته وفصاحته، استطاع أن يكون أحد الأعمدة التي ساعدت في بناء الدولة الأيوبية. كانت إنجازاته الإدارية والثقافية متميزة في عصره، وكان له دور بارز في إدارة الشؤون الداخلية والمالية. ورغم مرور الزمن، لا يزال القاضي الفاضل يُعتبر رمزًا من رموز الفكر والإبداع في التاريخ الإسلامي والعربي.
الرابط المختصر للمقال: https://bayanelm.com/?p=30431