الدولة الرستمية في المغرب الاوسط (160-296 هجري-776-908 ميلادي)
شَهِدَ المغرِبُ الإسلاميُّ مُنَذُ أواخِرِ القرنِ الثاني الهجريِّ قيامَ دُولٍ إسلاميَّةٍ مستقلَّةٍ في سائِرِ أجزائِهِ، وكانَ يُقْصَدُ بالمغربِ في تلكَ الفترةِ الأراضيّ الممتدةَ من غربِّي مصرَ إلى المحيطِ الأطلسيَّ. وكانتْ مدينةُ الإسكندريةِ هيَ الحدَّ الفاصِلَ بينَ المغربِ والمشرِقِ.
وينقسِمُ المغربُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ هيَ :
١- المغربُ الأدنى وكانَ يُسَمَّى أيضاً (إفريقية) ويشملُ اليومَ ليبيا وتونس .
٢- المغربُ الأوسطُ ويشملُ اليومَ الجزائرَ، وفيهِ قامتِ الدولةُ الرستميةُ.
٣- المغربُ الأقصى ويُعْرَفُ اليومَ بالمملكةِ المغربيةِ.
انطلقتِ الدعوةُ الإباضيةُ إلى شماليٌّ إفريقيا على يدِ الداعيةِ الكبيرِ سَلَمةَ بنِ سَعْدٍ الحضرميِّ الذي قَدِمَ من البصرةِ سنة ١٠٥هـ واستقرَّ في جبل نفَوسةَ بمنطقةٍ طرابلسَ وأخذَ ينشرُ الدعوةَ بَيْنَ قبائِلَ البربرِ. وفي سنةِ ١٣٥ هـ عادَ سَلَمةُ بنُ سَعْدٍ إلى البصرةِ ومَعَهُ أربعةُ رجالٍ يمثلونَ قبائِلَ ومناطِقَ مختلفِةً من المغربِ لإعدادِهم ليكونوا حَمَلَةَ العَلِم، وكانَ مِنْ بَيْنِهمْ عبدُ الرّحمنِ بنْ رُسْتُمَ.
تَلَقَّتْ هذهِ المجموعةُ أصولَ الدَّعْوةِ الإباضيةِ وتعاليقها على يدِ أبي عبيدةَ مُسْلِم بِنِ أبي كريمةَ التميميّ في البصَرةِ مدّةً خمسِ سنواتٍ وانضمَّ إليهِم في البصَّرةِ أبو الخطابِ عبدُ الأعلى ابنُ السَّمْحِ المعافريُّ اليمنيُّ.
من هم حملة العلم الى المغرب؟
حَفلَةُ العِلْمِ إِلى المغربِ لهُمّْ:
١- عبدُ الرحمنِ بِنُ رُسَّتُم من القيروانِ.
٢- عاصِمُ السدراتي من المغربِ الأوْسَطِ.
٣- أبو داودَ القبليُّ النفزاويُّ من جنوبيّ القيروان.
٤- إسماعيلُ بنُ درارِ الغدامسيِّ مِنٌ غدامسَ جنوبي طرابلسَ.
عادَ حَمَلةُ العِلْم إلى المغربِ، ونَشطوا بالدعوةِ إلى الإباضيةِ ، وفي سنةِ ١٤٠هـ بايعوا أبا الخطابِ عبدَ الأعلى بنَ السَمْحِ المعافريِّ بالإمامةِ ، فأعلنَ عنّْ قيامِ الإمامةِ الإباضيةِ وعيَّنَ عبدَ الرحمنِ بنَ رُسَّتُم والياً على القيروانِ.
أرسَلَ أبو جعفرِ المنصورُ ثاني خلفاءِ الدولةِ العباسيَّةِ سنةَ ١٤٤هـ حملةً عسكريةَ نجحتْ في القضاءِ على الإمامةِ الإباضيةِ التي أنشأَها أبو الخطابِ، فخَرَجَ عبدُ الرحمنِ بنِ رُسّْتم إلى المغربِ الأوسَطِ، ونزلَ بينَ قبائلِ البربرِ، وتجمَّعَ الإباضيون عندَه مِنْ طرابلس وجَبَلِ نفوسةَ، وبايعوهُ إماماً عليهم سنة ١٦٠هـ، ورأى عبدُ الرحمنِ بَعْدَ أنَّ بُويعَ بالإمامةِ أنْ يتَخذَ لنفِسِهِ عاصمةً، فاستعان بأهْلِ العِلْم والخِبْرَةِ، فاستْحَسْنوا موضعَ (تاهرت) لتكونَ عاصمةُ للدولةِ الرستميةِ التي استمرتَ مائةً وستًا وثلاثينَ سنةً.
استَحْسنَ الإباضيونَ موقعَ مدينةِ تاهرتَ في منطقةٍ جبليةٍ داخليةٍ غنيَّةٍ بمصادرِ المياهِ ومحاطةٍ بقبائلَ بربريةٍ إباضيةٍ، وهذا يجعلُها بعيدةً عن خطَرِ الدولةِ العباسيةِ،
كما أنَّ موقعَها المتوسطَ يُسهَّلُ اتصالَها بالجماعاتِ الإباضيةِ، ويمكّنُها من السيادةِ التجارية.
من هم الاغالبة؟
الأغالبةُ:
دولة أسسها إبراهيمُ بنُ الأغلبِ سنة ١٨٤ هـ في القيروان، والأغالبة هم الذين فتحوا جزيرتى صِقليةَ ومالطا ونشروا الإسلامَ فيهما، وحاربوا البيزنطيينَ في البَحْرِ المتوسِّطِ.
أسسَ الإمامُ عبدُالرحمنِ بنْ رستمَ دولةً إباضيةَ شملتْ المغربَ الأوسطَ من بجّايةَ شرقاً إلى وادي ملوية غرباً، وتُطِلُ بساحِلِها من جهةِ الشمالِ على البحرِ المتوسطِ، وشملتِ الدولةُ كذلكَ أغلبَ المغربِ الأدنى من منطقةٍ طرابلس وجبلِ نفوسَةَ ماعدا مدينةَ طرابلسَ والساحلَ ، فإنهما كانا تحتَّ نفوذِ دولةِ الأغالبةِ، وأمتدَتِ الدولةُ الرستميةُ جنوباً في عُمَّقِ الصحراءِ إلى ما بَعْدَ واركلا (ورَقلة) وغدامس وفزّان.
تميَّزتِ الدولةُ الرستميةُ بالتَّمَسُّكِ بالدَّينِ، وتميَّزَ أنمتُها بحياةِ الزُّهْدِ والتُّقوى، وحكموا الناسَ بالعَدّْلِ، وبسَطَوا الأمنَ. ومَعَ أنَّ الدولةَ كانتْ على المذهَبِ الإباضيِّ، إلا أنَّها لم تفرضْ مذهبَها على الناسِ، فَقدَّ تركتْ لَهم حريةَ اختيارِ ما يشاؤون مِنَ المذاهبِ الإسلاميةِ. وسادَ التسامُحُ الدينيُّ، وتمتَّعَ اليهودُ والنصارى بحقوقِهم التي شرَّعها الإسلامُ.
انتَشَرتْ أَنْباءُ الدَوْلَةِ الجديدةِ وأَخْبارُ العَدَلِ والأمْنِ، فقَصَدَها الإباضيةُ مِنْ جنوبيّ الجزيرةِ العربيةِ والعراقِ وفارسَ، وهاجرَ إليها الكثيرونَ من أهْلِ المشرِقِ والمغربِ والأندلسِ وقصدَها التجارُ والكتابُ والعلماءُ ورجالُ الصناعةِ .
كانَتِ الدولةُ العباسيَّةُ على عَداءٍ مَعَ المذهبِ الإباضيِّ، ولذلكَ طلبتْ إلى حكامِ دولةِ الأغالبةِ في القيروانِ محاربةَ الدولةِ الرستميةِ والقضاءّ عليها، ولكنَّ الأغالبةَ فشلوا في محاولتِهم، ولذلكَ حرصوا على مهادئةِ الرستميينِ ومصالحتِهم.
من هم الادارسة؟
الأدارسةُ:
دولة أسسها في المغربِ الأقصى إدريش بنُ الحسنِ بنِ الحسنِ بنِ علي ابن أبي طالب سنة ١٧٢هـ وكانتْ عاصمتُها في فاسَ.
أما دولةُ الأدارسةِ في المغربِ الأقصى ، فقد كانتْ علاقاتُها حَسَنَةً وودّيةً مَعَ الدولةِ الرستميةِ فقد شكَّلتْ الدولةُ الرستميةُ حمايَةً لدولةِ الأدارسِةِ مِنَ الدولةِ العباسية.
وكانت العَلاقَةُ بَيْنَ الدَوْلَةِ الرستميَّةِ والدولةِ الأمويةِ في الأندلسِ وديَّةً وقويَّةً، فقدْ قدَّمَ الإباضيونَ الحمايةَ لعبدِ الرحمنِ الداخلِ ، وشكّلت الدولةُ الرستميةُ الجسرَ الذي يصِلُ الدولةَ الأمويَّةَ بالمشرقِ الإسلاميَّ، ولذلكَ كثُرتِ السفاراتُ والوفودُ وتبادلُ الهدايا بَيْنَ الدولتّْينِ.
ازدهرتِ الزَّراعَةُ في الدولةِ الرستميةِ بسببِ خصوبةِ الأرضِ ووَفْرةِ المياهِ، فزرعَ السكانُ الحبوبَ والفواكهَ وزرعوا النخيلَ في الواحاتِ والمدنِ الصحراويةِ. وازدهرتِ الصناعةُ.
ومِنَ صناعاتِ الدولةِ الرستميةِ ، المنسوجاتُ الصوفيةُ والكتَانيةُ ودباغةُ الجلودِ والأواني الفخاريةُ والخزفُ والزجاج .
ونتيجةَ للأَمنِ والاستقرارِ الذي نشرتُّهُ الدولةُ الرستميةُ في ربوعِ المغربِ، وللموقعِ الجغرافيِّ المتوسطِ للدولةِ الرستميةِ، وعلاقاتِها الطيبةِ بالدولِ المجاورةِ، ازدهرتِ التجارةُ فصدَّرَ الرستميونَ إلى بلادِ السودانِ جنوبيَّ الصحراءِ الكُبرى، المنسوجاتِ والزجاجَ والعطورَ والأوانيَّ الفخَّاريَّةَ والخزفَ واستوردوا منها الذهبَ الخامَّ والعاجَ وريشَ النعامِ وجلودَ الحيواناتِ .
وكانتْ واركلا أكبرَ مراكزِ الدولةِ الرستميةِ للتجارةِ الجنوبيةِ ، كما كانتْ السُّفنُ التجاريَّةُ للدولةِ الأمويةِ في الأندلسِ تصلُ إلى موانئِ الدولةِ الرستميةِ في وهرانَ ومستغائم ثُمَّ تحملُ البضائِعَ عَبْرَ الدَّولةِ الرستميةِ إلى بلادِ السودانِ ومصرَ والمشرقِ الإسلاميِّ.
أدَى الاستقرارُ والازدهارُ الاقتصاديُّ الذي شهدِتّْهُ الدولةُ الرستميةُ إلى تطوّرِ الحضارةِ الإسلاميةِ، فأَقْبلَ الناسُ على تشييدِ القصورِ والمباني الفخمةِ، وازدادَ انتشارُ الإسلامِ في أقاليم المغربِ والسودانِ الإفريقيِّ، وازدادَ التعريبُ بينَ البربرِ. واهتمَّ أئمةُ الدولةِ الرستميةِ بِنَشْرِ العِلَم وشجَعوا الناسَ على طلبهِ، وأصبحتْ مدينةُ تاهرتَ مركزاً ثقافياً مهّمًا وخصوصاً للثقافة الدينية ، وامتلأتْ مساجِدُ تاهرتَ وجبلُ نفَوسةَ وجَرْبةُ بطَلَبةِ العِلْم يدرسونَ على أيدي علماءِ الإباضيةِ أصولَ الدّينِ والشريعةِ والرياضياتِ والطبَّ والهندسةَ والكيمياءَ والفلكَ.
ضعُفَتِ الدولةُ الرستميةُ في عهدِ الإمامِ يقظانَ بنِ أبي اليقظانِ، وبدأَ المسلمونَ الشيعَةُ يقتربون من حدودِ الدولةِ الرستميةِ، فَدَخلَ أبو عبدالله الشيعيُّ مؤَسَّسُ الدولةِ الفاطميةِ تاهرتَ سنة ٢٩٦هـ، وَتوزّعَ إباضيةُ الدولةِ الرستميةِ في جبالِ أوراسَ وجبلِ نفَوسةَ وجزيرةٍ جَرْبةَ، وما يزالُ سكّانُ هذهِ المناطقِ إباضيون حتَى اليومِ.