الثقافة الوطنية العمانية والمتغيرات الراهنة
ثقافة الأجداد .. التميز والتواصل
اعتنى العمانيون منذ فجر الإسلام بالعلم والتعلم، واهتموا بالجانب الثقافي اهتماما يلفت الانتباه بوصفه مظهرا حضاريا
وصورة معبرة عن حياتهم وتوجهاتهم الحياتية، فقد اتصلوا منذ القدم بالعديد من الحضارات والمدنيات، وأخذوا من ثقافات
شعوبها دون المساس بقيمهم الأصيلة وعاداتهم وتقاليدهم العريقة، وترسخت الأصالة العمانية في حضارة الشعب العماني وثقافته وعاداته وتقاليده المستمدة من حضارة الإسلام وثقافته، ومن عمق التاريخ العماني وأصالته، وفهم التوزع الديموغرافي للسكان وجيومورفولوجية أرض عمان التي أثرت بدورها في تشكيل أوجه كثيرة في الحياة الثقافية لعمان، التي اتسمت بالثبات والمرونة، ولذا عمل العماني على المواءمة بين الأصالة والمعاصرة من خلال الاحتفاظ بواقع قيمه ونظمه وعلاقاته الاجتماعية، وفي الوقت ذاته اعتماده على التقدم التقني الضروري لمتطلبات العصر.
وساعدت اللغة العربية على انفتاح العمانيين وتفاعلهم مع غيرهم من الشعوب باعتبارها لغة عالمية، وطبعت المجتمع العماني بطابعها وثقافتها وأساليب تفكيرها باعتبارها لغتهم الأساسية ووسيلة ارتباطهم بموروثهم الثقافي الذي كان وما يزال يغذي ويعمق إمكانات التحدي والبقاء، ويمكن من الاستمرارية ويقاوم الذوبان الحضاري .
وترسيخا لأصالة الماضي، وفي إطار من الوعي والتواصل، استطاع المجتمع العماني مواجهة تحديات العصر والإفادة من تقنياته الحديثة في النهوض بثقافته في مختلف المجالات، فقد اهتمت السلطنة بربط مناهج التعليم وأساليبه وأهدافه بثقافة عمان وحضارتها وموروثها التاريخي، مع إدخال الطرق والأساليب الحديثة في التعلم باستخدام التقنيات المعاصرة كالحاسوب وأجهزة العرض والوسائل الحدیثة.
واستخدمت السلطنة التقنيات الحديثة في الحفاظ على المخطوطات والوثائق سواء على الحاسب الآلي أو على الميكروفيلم لاسترجاعها والحصول على نسخ منها مع المحافظة على الأصل، كما تمت فهرستها ونشرها على موقع وزارة التراث والثقافة في شبكة المعلومات العالمية (الإنترنت).
وعنيت السلطنة أيضا بالفنون العمانية وتطويرها، ففي مجال الرسم والفنون التشكيلية ظهرت الأشكال الفنية العمانية متميزة بالمزج والانصهار العميق بين التقاليد الأصيلة والحيوية المعاصرة، كما نجحت الجمعية العمانية للفنون التشكيلية في تحقيق رؤية حضرة صاحب الجلالة السلطان قابوس (رحمه الله) والسلطان هيثم بن طارق (حفظه الله) المتمثلة في نهضة الأمة استنادا إلى تقدير التقاليد والانفتاح لمواجهة المستقبل.
وتسعى السلطنة إلى إبراز الموروث الموسيقي للسلطنة، وتؤكد الشواهد التراثية والمعاصرة اهتمام الإنسان العماني بالموسيقى، وأن في هذا الاهتمام دلالة على الارتباط التاريخي لهذا الفن، وعلى قيمة الموروث الموسيقي بوصفه مكونا ثقافيا إبداعيا، فقد دخلت أنماط موسيقية جديدة إلى عمان، إلا أن ذلك لم يؤدِ إلى تجاهل الموسيقى التقليدية، ولذلك استفاد مركز عمان للموسيقى التقليدية من التقنيات الحديثة في المحافظة على الفنون الشعبية والموسيقى التقليدية
العمانية كموروث ثقافي من خلال الصور الفوتوغرافية والشرائح الملونة والأشرطة السمعية والبصرية.
وهكذا تمكنت السلطنة من تثبيت هويتها الثقافية والمحافظة على خصوصيتها، ورعاية المواهب الفنية العمانية والمهتمين بهذا المجال، وتوفير الأدوات والآلات اللازمة لممارسته، وإقامة المحاضرات والندوات والدورات التدريبية والعروض الفنية الموسيقية.
وفي ضوء تفعيل هذا التراث فإن السلطنة تعكس على مرآته مبادئ الفكر العماني في التمسك بالموروث والأصالة، والتواصل مع المعاصرة والتجديد بما لا يتعارض مع مكونات هوية المجتمع العماني.
نحن والآخر … تواصل ثقافي
لم تتوقف منظومة الثقافة العمانية عند حدود الإنتاج والإبداع، وإنما تواصلت مع الآخر في ظل التوجهات العالمية الحديثة للثقافة العالمية، فاستمرت التحركات والاتصالات العمانية الواسعة على المستويات كافة مع الدول الشقيقة والصديقة، ولعل هذا ما يشعر بأهمية القرار السياسي نحو تفعيل الثقافة العمانية واستمرار تطورها واطلاعها على الثقافات العالمية الأخرى، وهذا يؤكد الدور البارز الذي يلعبه البعد الثقافي والحضاري في استمرارية العلاقات العمانية وتعمقها من أجل تحقيق المصالح المشتركة بين شعب عمان والشعوب الأخرى.
وتستمر مظاهر التواصل الثقافي العماني في مجال العلم والتعليم، فقديما هاجر الخليل بن أحمد الفراهيدي إلى العراق واتجه ابن الذهبي إلى بلاد المغرب والأندلس، وحديثا عملت السلطنة على ابتعاث العديد من أبنائها إلى الخارج لإكمال دراستهم الجامعية والعليا، كما تقوم بتعزيز العلاقات الثقافية والعلمية بين السلطنة والدول الأخرى. وبذلك أسهم نظام البعثات في تعرف المبتعثين تجارب الشعوب الأخرى وثقافاتها، وفي المقابل أسهم هؤلاء في نشر الثقافة العمانية وتعريف الشعوب بها من خلال تأسيس الأندية الثقافية وإقامة الفعاليات والمعارض المختلفة.
ويتضح اهتمام السلطنة بالتواصل الثقافي مع العالم من خلال تخصيص الكراسي العلمية باسم صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد (رحمه الله) في العديد من جامعات العالم، مثل كرسي جلالة السلطان المعظم في مجال الاستزراع الصحراوي بجامعة الخليج العربي في البحرين الذي تم افتتاحه عام ١٩٩٤م، وتبعه في أكتوبر ٢٠٠٣م افتتاح مركز جلالة السلطان قابوس للزراعة المتطورة بدون تربة في الجامعة نفسها.
ولم يقتصر الإسهام الثقافي لعمان على الجامعات العربية وحدها، وإنما امتد إلى الجامعات الغربية مثل جامعة ملبورن الأسترالية التي أنشأت كرسي سلطان عمان للدراسات العربية والإسلامية، كما تم تدشين كرسي أستاذية في العلاقات الدولية باسم جلالة السلطان المعظم في كلية ((جون كنيدي للدراسات الحكومية)) بجامعة هارفارد الأمريكية بهدف تكوين التواصل الفكري بين السلطنة ودول العالم .
وتتويجا للعلاقات الأكاديمية والتاريخية والتعليمية التي تربط السلطنة بجمهورية الصين الشعبية، فقد تم تدشين كرسي السلطان قابوس للدراسات العربية بجامعة بكين، ويعتبر ذلك دليلاً على عمق هذه العلاقات المتأصلة بين الشعبين بدءا من طريق الحرير إلى هذا الحدث العلمي البارز في تاريخ العلاقات بين البلدين الصدیقین.
ومن صور التواصل الثقافي في المجال العلمي إنشاء اللجنة الوطنية العمانية للتربية والثقافة والعلوم في ١٩٧٤/٩/١٦م بهدف تنظيم وتنسيق ودعم التعاون بين المنظمات المعنية بالتربية والثقافة والعلوم وبين الدولة بمختلف مؤسساتها المهتمة بهذا المجال.
وتتعاون اللجنة الوطنية العمانية للتربية والثقافة والعلوم مع العديد من المنظمات والهيئات الدولية، وذلك بهدف تقديم البرامج التدريبية والندوات المتخصصة وورش العمل.
ومن أبرز هذه المنظمات:
١- منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو UNESCO) تأسست عام ١٩٤٥م وانضمت السلطنة إليها في ١٩٧٢/٢/١٠م.
٢- المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الأليسكوAlesco): تأسست في ١٩٧٠/٧/٢٥م، وانضمت إليها السلطنة في ١٩٧٣/٥/١م.
٣- المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة (الإيسيسكو ISESCO): تأسست في مايو عام ١٩٨٠م وانضمت السلطنة إليها في ١٩٨٢/٦/٥م.
وأسهم العُمانيون بمقالاتهم وإبداعاتهم في الصحافة العربية الصادرة في الخليج العربي وفي أقطار الوطن العربي الأخرى، فبالإضافة إلى إثراء صحافتهم في زنجبار فقد أسهموا في الصحافة العربية، وفي المقابل فتحت الصحف والمجلات العمانية المجال أمام المفكرين العرب والأجانب للمساهمة بفكرهم كما هو الحال في صحيفة عُمان والوطن وغيرها ومجلة نزوى الثقافية التي أصبحت منبرًا للمثقفين داخل عُمان وخارجها.
نحن والآخرون … عطاء حضاري دائم
كانت رسالة عمان الحضارية بأبعادها الإنسانية النبيلة ودورها المميز تحتل مركزا متقدما في اهتمامات جلالة السلطان قابوس بن سعيد (رحمه الله)، فقد سعى دوما إلى أن تتبوأ عمان مكانتها وتستأنف مسيرتها على مختلف الصعد وفي كل الجبهات. وبالمعنى الإنساني والحضاري شاركت السلطنة ضمن جهود دولية أخرى تحت مظلة منظمة اليونسكو في إحياء المعاني الحضارية لمشروع طريق الحرير، وسخرت سفينة ((فلك السلامة)) بأمر من جلالته لتكون واسطة الانتقال.
وخصص جلالة السلطان قابوس بن سعيد (رحمه الله ) جائزة سنوية لمن يسهم من العلماء والمفكرين والمعاهد والدراسات
بجهود بارزة في الحفاظ على صون البيئة، وقد تم إنشاؤها منذ عام ١٩٨٩م باسم جائزة السلطان قابوس لصون البيئة، وتمنحها منظمة اليونسكو كل سنتين للبارزين في هذا المجال.
وإحياء للدور العماني في الملاحة البحرية وتواصلها مع العالم فقد قامت السفينة ((صحار)) برحلة بحرية إلى ميناء كانتون بالصين عام ١٩٨١م، كما قامت السفينة الشراعية ((شباب عُمان)) برحلة إلى نيويورك استمرارا للتواصل الذي تم في القرن التاسع عشر الميلادي عندما وصلت السفينة (البيكوك) الأمريكية إلى مسقط عام ١٨٣٣م، وتلاها وصول السفينة ((سلطانة)) العمانية إلى نيويورك عام ١٨٤٠م.
وفي إطار التواصل الثقافي تقوم السلطنة بتنظيم أسابيع ثقافية خارج السلطنة تتعلق بالتاريخ والحضارة العمانية ودور عُمان في نشر الثقافات بين الشعوب، كما تتعاون السلطنة مع المؤسسات الثقافية بالدول الإسلامية والعالمية، وكذلك مع المنظمة العالمية الملكية الفكرية (الوايبو) (WIPO).
وتشارك السلطنة دول العالم في تعميق الفكر بأهمية الكتاب من خلال إقامة معرض مسقط الدولي للكتاب، والمشاركة في المعارض الدولية التي تقام خارج السلطنة .
التواصل الثقافي في مجال الفنون :
عرفت عُمان بعض الفنون من جراء اتصالها بالعالم الخارجي فعلاقاتها القديمة مع مناطق المحيط الهندي أدت إلى دخول بعض التأثيرات الفنية إليها، ففي ميدان الموسيقى دخل إلى عُمان بعض الآلات الموسيقية وفنونها من الهند وجنوب شرقي آسيا، وشرقي أفریقیا.
ولم تكن مجالات الرسم والفنون التشكيلية والتصوير بمعزل عن التواصل الثقافي العُماني مع العالم، حيث يشارك الفنانون
التشكيليون العُمانيون في العديد من الفعاليات داخل السلطنة وخارجها. أما في مجال التصوير فقد انضم نادي التصوير الضوئي (التابع للجمعية العمانية للفنون التشكيلية) عام ١٩٩٣م إلى عضوية الاتحاد الدولي لفن التصوير الفوتوغرافي (فياب)، واستطاع أن يحقق عددا من الإنجازات في مسابقة الاتحاد الدولي لفن التصوير الفوتوغرافي.
كما يؤدي الفن المسرحي دورا في التواصل الثقافي من خلال إقامة المهرجانات المسرحية وفتح المجال للمساهمات المحلية والخليجية والعربية فيها، مثل المهرجان المسرحي العماني الأول للفرق المسرحية الأهلية الذي أقيم في سبتمبر عام ٢٠٠٤م، ومشاركة فرقة صلالة المسرحية الأهلية في المهرجان المسرحي الخليجي الثامن في أبوظبي عام ٢٠٠٣م وحصولها على المركز الأول، كما كانت هناك مشاركات عمانية في مهرجانات عربية للمسرح.
صور ثقافية عمانية :
تتواصل مشاعل المعرفة العمانية في النشاطات والمهرجانات والمعارض والأسابيع الثقافية التي تعزز الحوار الحضاري وترسم صورة ثقافية تليق بإبداعات الوطن وامتداده الحضاري العريق، ومن الشواهد الحية على ذلك :
١- الموروث الثقافي العماني … إبداع وحضارة:
تحرص السلطنة على إبراز الموروث الثقافي العماني وتقديم الإبداعات العمانية ومجالات الثراء التاريخي الذي تحفل به الساحة العمانية، ويظهر ذلك جليا في جمع التراث العماني المخطوط، وترميم المباني التاريخية من قلاع وحصون وأبراج وأسوار وبيوت قديمة، وإنشاء المتاحف المتخصصة.
كما تم تجهيز عدد من القلاع والحصون الشهيرة في البلاد بالتحف الأثرية والمقتنيات الفنية للانتفاع منها حضاريًا وسياحيًا. هذا إلى جانب إقامة الندوات والأيام الثقافية والمشاركة بأعمال المهرجانات والمؤتمرات والمحاضرات الثقافية، وعملت على تحقيق وترجمة وطباعة ونشر العديد من المطبوعات في مختلف جوانب العلم والمعرفة الإنسانية، والعناية بالإنتاج الفكري المعاصر وإقامة معرض دولي للكتاب كل عام في السلطنة، والاشتراك في معارض الكتب التي تقام خارج البلاد بهدف التعريف بالتراث الفكري العماني القديم والمعاصر.
٢- مشاريع ثقافية عمانية :
يعد مشروع موسوعة السلطان قابوس لأسماء العرب جزءا مكملاً للموروثات الثقافية والتاريخية والاجتماعية وأحد الكنوز الإبداعية في مجال الثقافة العربية لما له من أهمية في مد جسور العلاقة التي تربط بين النهضة الثقافية والحضارية للسلطنة والدول العربية الشقيقة وربط الحاضر العربي بالتراث لتوظيفه في التخطيط المستقبلي.
ومن المشاريع الثقافية العمانية أيضا ((موسوعة أرض عمان)) التي تهدف إلى تقصي المعلومات الدقيقة، وتسجيل كل ما يتعلق بالأسماء الشخصية والقرى والقلاع والحصون والأماكن الأثرية والمعالم الطبيعية، وكل جوانب الحياة في المدينة والقرية التي تعكس الصورة المتكاملة عن أرض السلطنة، من خلال الهوية التاريخية للإنسان العماني والطبيعية العمانية.
٣- مسقط عاصمة الثقافة العربية:
تزدان عمان نورا وإشعاعا وتألقا بما تشهده من زخم ثقافي متواصل، حيث تحرص السلطنة على التمازج والتلاقي بين التراث
والثقافة، ويؤمن القائمون على شؤون الثقافة بعدم التوقف خلال مسيرة تقديم الذات عند حد تقييم التراث فقط.
ولقد استعدت مسقط بشواهدها القديمة ومشاهدها الحدیثة، وأعدت احتفاءها لتكون عاصمة للثقافة العربية عام ٢٠٠٦م ،
تأكيدًا للتواصل مع ثقافات العالم باعتبار أن الثقافة العمانية جزء من المنظومة العربية التي تتكامل بدورها مع الثقافات الإنسانية، سواء في ماضيها الحضاري أو في حاضرها المعاصر، وجاء هذا الاختيار شهادة من اليونسكو على دور عمان الحضاري على مر العصور.
وتحاورت مسقط مع ثقافات العالم بما تمتلكه من مقومات يتداخل فيها الزمان والمكان والكتاب والمتحف والقلعة والحصن، فالسلطنة بتراثها الثقافي أقدر على اختصار المسافات والبحث عن القواسم المشتركة على صعيد الفكر الإنساني، وهي التي تمتلك القدرة على إنجاح تجربة التمسك بالخصوصية الوطنية والانتماء القومي والهوية الإسلامية، وهي التي نسجت تاريخا حافلاً بالأحداث زاخرا بالأمجاد التي تتحدث عنها الآثار والبيوت والحصون والقلاع التي تنتصب شواهد في كل ركن وناحية.
وقد تكللت الجهود التي تبذلها المؤسسات الرسمية المعنية بالقطاع الثقافي في إبراز وترجمة مبادئ اختيار مسقط عاصمة
للثقافة العربية التي تنحصر في المكانة التاريخية والحضارية للسلطنة منذ العصور الأولى لما قبل التاريخ حتى العصر الحاضر، وتفاعل القطاع الخاص مع المؤسسات الأهلية في النهوض بالحركة الثقافية، وتفعيل التعاون بين هذه القطاعات إلى جانب إبراز الخصوصية العمانية والحفاظ على الهوية التي تتميز بها السلطنة والشخصية العمانية، والتركيز على التواصل الثقافي بين الأجيال.