
مملكة دعمت: مملكة قديمة في تاريخ أفريقيا والقرن الأفريقي
مملكة دعمت هي إحدى الممالك القديمة التي كانت موجودة في إقليم تغراي، وتحديدًا في منطقة القرن الأفريقي. هذه المملكة، التي نشأت في القرن السابع قبل الميلاد تقريبًا، كانت ذات تأثير كبير على تاريخ المنطقة. تأسست مملكة دعمت من قبل الجاليات السبئية المهاجرة التي قدمت من جنوب الجزيرة العربية، وهي مثال حي على تفاعل الثقافات والتبادلات بين شمال شبه الجزيرة العربية وشرق أفريقيا. في هذا المقال، سوف نغطي تفاصيل هذه المملكة العريقة، تاريخها، ثقافتها، ومعالمها الأثرية الهامة.
نشأة مملكة دعمت وتأسيسها
مملكة دعمت هي من أقدم الممالك التي نشأت في المنطقة الواقعة شمالي إثيوبيا، وتحديدا في منطقة تيغراي. تأسست المملكة على يد الجاليات السبئية التي هاجرت من جنوب الجزيرة العربية، وبالأخص من منطقة سبأ، إلى الأراضي الإفريقية في القرن السابع قبل الميلاد. وكان وصول هذه الجاليات إلى القرن الأفريقي جزءاً من موجة من التوسع التجاري والتفاعل الثقافي بين العرب الجنوبيين والسكان المحليين في القرن الأفريقي.
مع مرور الوقت، استعمر هؤلاء المهاجرون السبئيون مناطق شمال تيغراي وأقاموا مستعمرات هناك. وقد أظهروا تأثيراً كبيراً في المجالات المعمارية والثقافية في هذه المناطق، مثل بناء المعابد الكبيرة والنقوش الضخمة التي سادت في تلك الحقبة. يمكننا القول أن مملكة دعمت كانت عبارة عن امتداد حضاري وثقافي للسبئيين في منطقة القرن الأفريقي، وساهمت هذه المملكة في تشكيل العديد من الجوانب الثقافية والاجتماعية في المنطقة.
المدينة العاصمة: “يحا”
كانت “يحا” هي عاصمة مملكة دعمت. يقع هذا الموقع على بعد حوالي 30 كيلو مترًا شمال شرق أكسوم في المنطقة الحالية. تعتبر مدينة “يحا” من المواقع الهامة في تاريخ مملكة دعمت، حيث كانت تمثل مركزًا دينيًا وإداريًا هامًا. الموقع الجغرافي لمدينة “يحا” جعل منها مركزًا مثاليًا للسبئيين، خاصة في ظل الظروف الطبيعية والموقع الاستراتيجي الذي ساعد على تطور المملكة وزيادة نفوذها في المنطقة.
تتميز مدينة “يحا” بوجود معابد ضخمة يعود تاريخها إلى فترة تأسيس المملكة، ومنها معبد الإله “المقه” الذي كان من أضخم المعابد في المنطقة. هذه المعابد كانت مركزًا هامًا للعبادة في المملكة، حيث كانت تُقام فيها الطقوس الدينية وتُقدَّم القرابين للآلهة السبئية التي كانت تُعبد في هذه الفترة، مثل الإله “عثتر” و”ذات حميم”.
الهيكل السياسي في مملكة دعمت
كان نظام الحكم في مملكة دعمت يعتمد على حكام يحملون لقب “الملك الصارع” أو “مكرب دعمت”. هذا اللقب كان يشير إلى الحكام الذين كانوا يتمتعون بسلطة كبيرة وكانوا يديرون الأمور السياسية والإدارية للمملكة. وكان هؤلاء الحكام يطلق عليهم أحيانًا “مكرب سبأ”، في إشارة إلى علاقتهم بالسبئيين الذين أسسوا هذه المملكة.
حكام مملكة دعمت كانت لهم دور كبير في تعزيز السيطرة السياسية والإدارية في المملكة. وقد تم تحديد ألقابهم وأدوارهم بشكل دقيق في العديد من النقوش التي عثر عليها في مواقع مختلفة من المملكة. ومن أشهر الحكام الذين حكموا المملكة هو “وعران حيوة” الذي يعتبر من مؤسسي المملكة، وكذلك “ردام بن سليم” الذي أسس نظام الحكم بشكل رسمي في المملكة.
الآلهة والديانة في مملكة دعمت
فيما يتعلق بالديانة، كانت مملكة دعمت قد تبنت العديد من الآلهة التي كانت معروفة في جنوب الجزيرة العربية. كان الإله “المقه” هو الإله الرئيسي في المملكة، وقد كان يُعبَد في العديد من المعابد التي شيدها الحكام السبئيون. كما كان الإله “عثتر” من الآلهة المهمة التي كانت تُعبد في المملكة، وهو إله مرتبط بالخصوبة والحرب. وبالإضافة إلى ذلك، كان هناك العديد من الآلهة الأخرى التي كانت تُعبد في مملكة دعمت، مثل “ذات حميم” و”ذات بعدان”، وهما إلهتان شمسيتان كان يتم تكريمهما في طقوس دينية خاصة.
كان السبئيون في دعمت يقدسون هذه الآلهة ويقدمون لها القرابين في معابدهم الكبرى، مثل معبد “يحا”. وكانت هذه المعابد تلعب دورًا هامًا في الحياة الدينية والاجتماعية للمجتمع.
العمارة والنقوش في مملكة دعمت
من أهم الآثار التي خلفتها مملكة دعمت هي المعابد والنقوش الضخمة التي شيدها الحكام السبئيون. كانت المعابد في المملكة تُمثل مركزًا للعبادة والاحتفالات الدينية، وقد كانت هذه المعابد تُبنى وفقًا للطراز المعماري السبئي الذي كان شائعًا في المنطقة. وكان البناء يتسم بالضخامة والتعقيد، حيث كان يتم استخدام المواد المحلية مثل الحجارة والخشب في بناء هذه المعابد.
النقوش التي تم العثور عليها في مواقع مختلفة من مملكة دعمت تعد من أبرز المعالم الأثرية في المنطقة. كانت هذه النقوش تحمل معلومات هامة عن الحكام والمناسبات الدينية، بالإضافة إلى العديد من التفاصيل التاريخية التي تسلط الضوء على الحياة اليومية في المملكة. وقد تم استخدام خط المسند في كتابة هذه النقوش، وهو نفس الخط الذي كان يُستخدم في جنوب الجزيرة العربية.
النهاية والاندثار
على الرغم من أن مملكة دعمت كانت واحدة من الممالك المؤثرة في المنطقة في وقتها، إلا أنها لم تدم طويلاً. ففي نهاية القرن الخامس قبل الميلاد، بدأت المملكة في الانهيار بسبب عدة عوامل، منها ضعف الحكومة، والصراعات الداخلية، بالإضافة إلى التغيرات السياسية في المنطقة. ومع مرور الوقت، انخفضت أهمية مملكة دعمت، وبحلول منتصف القرن الخامس قبل الميلاد، كان قد تم دمار العديد من المواقع الهامة في المملكة، مثل “يحا” والمناطق المحيطة بها.
يعود سقوط مملكة دعمت إلى ضعف الحكومة وتدهور الظروف الاجتماعية والاقتصادية، بالإضافة إلى التغيرات في الهيمنة السياسية في المنطقة. ومع تراجع قوة المملكة، أصبح من الصعب الحفاظ على النظام السياسي والثقافي الذي أسسه السبئيون في القرن الأفريقي.
التراث الثقافي لمملكة دعمت
رغم انتهاء مملكة دعمت، إلا أن التراث الثقافي لهذه المملكة لا يزال قائمًا حتى اليوم. يُعد تأثيرها الثقافي في المنطقة من أبرز ما يميز تاريخ القرن الأفريقي القديم، فقد قدمت مملكة دعمت العديد من الإسهامات الهامة في مجالات الفن، الهندسة المعمارية، والديانة. النقوش التي خلفتها مملكة دعمت تعد مصدرًا هامًا للباحثين لفهم تاريخ المنطقة وتطورها.
كانت المملكة تمثل مرحلة هامة في تفاعل الثقافات المختلفة في المنطقة، وكان لها دور في تأسيس ثقافة معمارية ودينية جديدة كان لها تأثير على الممالك اللاحقة، مثل مملكة أكسوم.
الختام
مملكة دعمت هي إحدى الممالك القديمة التي تركت بصمة واضحة في تاريخ القرن الأفريقي. على الرغم من أن المملكة لم تستمر طويلاً، إلا أن إرثها الثقافي والديني لا يزال قائمًا حتى اليوم. كانت دعمت تمثل مرحلة هامة من التفاعل الثقافي بين العرب الجنوبيين والسكان المحليين في القرن الأفريقي، وقد ساهمت في تأسيس العديد من المبادئ المعمارية والدينية التي أثرت على الممالك اللاحقة في المنطقة.
تاريخ مملكة دعمت يبرز أهمية التبادل الثقافي بين الحضارات، ويعكس التفاعل العميق بين الشعوب القديمة في الشرق الأوسط وأفريقيا.
الرابط المختصر للمقال: https://bayanelm.com/?p=30532