النقوش الصخرية في سلطنة عمان.. سجل تاريخي يعكس تلاقي الحضارات

تُعد النقوش الصخرية في سلطنة عمان من أقدم وسائل التوثيق التي استخدمها الإنسان لتسجيل مظاهر حياته اليومية ومعتقداته. فقد عبّر الإنسان القديم من خلالها عن تفاصيل محيطه وما يمر به من أحداث، فرسم الحيوانات التي عاش بينها، ودوّن معتقداته ومهاراته في الصيد والحرب. وتُعد هذه النقوش دليلاً مادياً على تفاعل حضارات متعددة في منطقة كانت دائماً ملتقى للطرق والتجارات.
الباحث حارث بن سيف الخروصي، المتخصص في هذا المجال، يشير إلى أن الموقع الجغرافي لعمان جعلها واحدة من أهم مناطق العالم في اكتشاف هذا النوع من الفنون، حيث وثّقت هذه النقوش حياة الإنسان العماني قديماً، من خلال رسم معاركه ومسارات تجارته ومظاهر حياته اليومية.
ويضيف أن الإنسان العماني رسم نفسه على الصخور ليعكس صورته كما كان يراها، شجاعاً ومقداماً ومتمكناً، وسجّل في هذه النقوش كثيراً من معتقداته ومشاعره، ما يجعل هذا الفن بمثابة أرشيف إنساني ثمين يستحق البحث والتنقيب والدراسة.
كما يوضح الباحث أن النقوش الصخرية في عمان لا تنفصل عن نظيراتها في مختلف أنحاء العالم، فهي تعبير إنساني عام، رغم خصوصية كل منطقة واختلاف الزمان والمكان. هذا التوثيق يعكس نمط حياة الإنسان وتفاعله مع بيئته وتغير المناخ الذي أثّر في أنماط معيشته عبر العصور.
الفن الصخري، حسب الخروصي، شهد حضورا بارزا في عصور ما قبل العصر الجليدي الأخير، ثم تراجع بسبب قلة عدد السكان وظروف المناخ، وعاد للظهور بقوة في العصر البرونزي، تزامناً مع زيادة عدد السكان والطرائد. هذا النمط يشبه في دورته تعاقب الفصول وتغيرات الحياة.
تشير الدراسات إلى أن الإنسان القديم وثّق من خلال هذه النقوش أساطيره وأدواته وأساليب حياته، وقد عُثر في عمان على نقوش لصوَر حيوانات كالفيلة والتماسيح والأسود والسلاحف والنعام، وكلها حيوانات لم تعد موجودة في البيئة العمانية بسبب التغيرات المناخية أو التدخل البشري. كما وثّقت النقوش أدوات الإنسان، كالأزياء والأسلحة والمراكب، إضافة إلى ملامح من معتقداته المرتبطة بالأجرام السماوية.
وفي محافظة جنوب الباطنة، برز الفن الصخري بشكل مميز، نظراً لموقعها الجغرافي القريب من البحر وارتباطها بولايـات محافظة الداخلية، ما جعلها ممراً مهماً للقوافل التجارية والثقافية. وقد تم توثيق هذا الدور من خلال النقوش المكتشفة في مناطق مثل قرية الهجير بوادي بني خروص، حيث ظهرت تدوينات لأسماء عابرين من خارج عمان، منهم أحمد بن ناصر المكي، وعلي الحساوي، وشخص أجنبي باسم فرانكلات كتب اسمه بالعربية. كما وُجد نقش يعود إلى عقد الإمامة للخليل بن شاذان في القرن الخامس الهجري، ما يبرز أهمية هذه المواقع في التوثيق السياسي والديني.
ويؤكد الباحث أن هذا التراث يمكن أن يكون أساساً لتعزيز الهوية الوطنية وبناء جسور التواصل الحضاري بين الشعوب، فهو ليس فقط جزءاً من الماضي بل استثمار للمستقبل. فكلما تعرّف الإنسان إلى ماضيه وماضي غيره، أصبح أكثر استعداداً للتفاهم والتعاون.
ويختم الخروصي بأن الحفاظ على هذا الإرث يتطلب تكاملاً في الجهود البحثية والعلمية، لضمان نقله إلى الأجيال القادمة بذات القيمة التي وصل بها إلينا.