معابر انتقال الحضارة الإسلامية إلى أوروبا (المعبر الإسلامي)
استفاد الأوروبيون من الحضارة الإسلامية استفادة كبيرة في شتى الجوانب الحضارية المزدهرة، وقد تجلى هذا الدور في حركة الإحياء التي بدأ بها تاريخ النهضة الحديثة في أوروبا، خاصة خلال الفترة التي امتدت من بداية القرن السابع الميلادي إلى أوائل القرن الثامن عشير الميلادي،
وكان البحر المتوسط جسر التواصل الحضاري بين الحضارة الإسلامية والغرب؛ ولذلك كانت المناطق الأوروبية الأقرب جغرافيًّا للبلاد الإسلامية هي أكثر المناطق التي استوعبت المؤثرات الحضارية الوافدة إلى أوروبا. وقد انتقلت تلك المؤثرات الإسلامية إلى أوروبا من خلال معبرين رئيسين: المعبر الإسلامي، والمعبر الأوروبي، أما المعبر الإسلامي: فهو انتقال الحضارة الإسلامية إلى أوروبا عن طريق المسلمين أنفسهم، من خلال امتداد الدولة الإسلامية في الأراضي الأوروبية، متمثّلا في الأندلس والدولة العثمانية.
أما المعبر الأوروبي فهو انتقال الحضارة الإسلامية عن طريق الأوروبيين أنفسهم، إما بغزوهم بلاد المسلمين في حروبهم الصليبية، وإما باحتكاكهم السِّلْمي بالمسلمين في جزيرة صقلية.
وسنقف هنا على المعبر الإسلامي من خلال الأندلس والدولة العثمانية.
1- الأندلس: انتقال الحضارة الإسلامية الى أوروبا عبر الأندلس:
أطلق لفظ “الأندلس” في بادئ الأمر على شبه جزيرة أيبيريا كلها: لأن أغلبها كان في يد المسلمين، وكلمة “أندلس” اشتقها العرب من كلمة “واندلوس” وهي اسم قبائل الواندال الجرمانية التي اجتاحت أوروبا في القرن الخامس الميلادي واستقرت في السهل الجنوبي وأعطته اسمها، ثم جاء العرب وعربوها إلى أندلس. وبعد انتهاء الحكم الإسلامي على الولايات الجنوبية الإسبانية، أطلق الإسبان اسم •اند الوسيا (Andalucia))) وهي المنطقة التي لا تزال تشمل ولايات قرطبة وإشبيلية وغرناطة، أما لفظ “إسبانيا والبرتغال” فالمراد به “شبه جزيرة إيبيريا” بوجه عام، بما فيها الأراضي الإسلامية والنصرانية على السواء.
كانت إسبانيا عندما فتحها المسلمون في أوائل القرن الثامن الميلادي، لا تختلف عن بقية بلاد أوروبا، من حیث انتشار الجهل والتأخر والفوضى، ولكن المسلمين بعد أن فتحوها نقلوها إلى مرحلة استقرار، فاتجهوا نحو استصلاح الأراضي، وتعمير المدن الخربة، وتنشيط التجارة الراكدة، وإنعاش الصناعة الزراعة، حتى أصبحت الأندلس في ظل الحكم الإسلامي من أغنى الأقطار الأوروبية وأكثرها ازدهارًا وازدحامًا بالسكان، يقول المؤرخ الفرنسي ((دريبار)) عندما قدم المسلمون – إلى إسبانيا- بدأوا باستصلاح الأراضي بواسطة نظام سقاية متطور، وزرعوا قصب السكر والقطن والتوت والأرز والموز، وكان أصحاب الحرفة يجوبون الولايات لجمع المعلومات الزراعية ونقلها إلى المزارعين في فن السقاية واستثمار التربة وحفظ المنتجات الزراعية.
وقد بلغت الحضارة الإسلامية ذروتها في النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي، عندما أصبحت قرطبة، عاصمة الأمويين في الأندلس، فكانت من أعظم مدن العالم المتحضِّر، وبها ما يزيد على مائتي ألف منزل يسكنها مليون نسمة، ويكفيها فخرًا في ذلك العصر أن أهلها كانوا يستطيعون المشي في شوارعها بعد غروب الشمس في ضوء المصابيح العامة، في حين ظلت مدينة لندن مدة سبعة قرون بعد ذلك دون إضاءة.
وبسبب رسالة الإسلام السمحة أفسح المسلمون المجال لأبناء الطوائف الأخرى للاشتراك في التأليف والترجمة،وغير ذلك من المجالات. وعن طريق طليطلة، وغيرها من المدن الأندلسية انتقل ما كان عند العرب من العلم والفلسفة، وامتدت العلوم الإسلامية إلى فرنسا وإنجلترا. وظهر في هذه البلاد علماء ومفكرون ساروا على نهج من سبقهم من علماء المسلمين أمثال الخوارزمي، والبيروني، وابن رشد، والغزالي، والكندي، والفرغاني.
انتقال الحضارة الإسلامية إلى أوروبا عبر الدولة العثمانية:
كان للدولة العثمانية دور كبير في نشر الإسلام وحضارته في القارة الأوروبية، استكمالاً للدور الذي بدأه المسلمون في الأندلس، فتوسعت الدولة العثمانية في القارة الأوروبية منطلقة بفكرها الإسلامي الذي ظهر في بناء المساجد، وكفالتها للحريات على مبدأ التسامح الديني؛ فقد عامل العثمانيون الشعوب الأوروبية معاملةً تقوم على التسامح النابع من روح الإسلام؛ وهذا جعل العثمانيين يَلْقَوْنَ ترحيباً من تلك الشعوب بعد أن نشروا بينهم من العدل والمساواة والأمن والنظام؛ مما أدى إلى اتِّساع نطاق الإسلام؛ إذ وصلت فتوحاتهم إلى فينا عاصمة النمسا ١٥٢٩م، وتمكنت من وضع النظم الكفيلة بتنظيم شئون تلك الشعوب؛ وهذا شجّع كثيراً من أهلها للدخول في الإسلام، والدليل على ذلك وجود دول إسلامية أوروبية كألبانيا والبوسنة والهرسك، إضافة إلى الأقليات الإسلامية في جنوب شرق أوروبا إلى وقتنا الحاضر.
وفي مجال العمارة قام العثمانيون ببناء المساجد على الطراز العثماني في جنوب شرق أوروبا؛ فالمساجد ذات القباب المتعددة، وعمارة المدارس، والتحصينات العسكرية المعمارية من أبرز تلك الشواهد على عظم المنجز الحضاري العثماني.
أما في المجال الاقتصادي فقد أصبحت الدولة العثمانية وسيطاً تجاريًا بين الشرق والغرب؛ فموقعها الجغرافي ساعد على أن تمثل طريقاً تجارياً تمرّ من خلاله المنتجات والبضائع المتبادلة.
كما سعت الجمهوريات التجارية الإيطالية إلى كسب ود السلطان العثماني للحصول على امتيازات تجارية في العاصمة العثمانية القسطنطينية؛ من ذلك سعت جمهورية فلورنسا إلى الحصول على موطئ قَدَم في العاصمة العثمانية، فتحيَّنت الفرصة لإقامة علاقات تجارية قوية مع العثمانيين، حيث أرسلت أسطولاً تجارياً إلى القسطنطينية، كما استقبلت سفارة عثمانية على أرضها بهدف إقامة علاقات وُدِّیة.
من أقوال المستشرقين:
يقول المستشرق الهولندي دوزي («إن في كل الأندلس لم يكن يوجد رجل أمي بينما لم يكن يعرف القراءة والكتابة في أوروبا معرفة أولية إلا الطبقة العليا من القسس».
أضف إلى معلوماتك:
قامت الدولة العثمانية من عام (١٢٩٩ – ١٩٢٤م) وهي دولة إسلامية كان لها بصمات واضحة في إثراء الحضارة الإسلامية لمزيد من العطاء والإبداع.
وقد امتدت أراضيها لتشمل أنحاء واسعة من قارات العالم القديم الثلاث: آسيا وأوروبا وإفريقيا، واتخذت من القسطنطينية (إسطنبول) عاصمة لها.
وَصَفَ الرحالة العثماني (أوليا جلبي) مدينة (بلجراد) الأوروبية في زيارته لها عام ١٦٦٠م بأنه كان يأتيها كل عام من خمسة إلى ستة آلاف حمّل من البضائع على الجمال والعربات من مصر، ودمشق، وصيدا، وبيروت، بالإضافة إلى إيران، كما كان يتم
تهيئة هذه البضائع لإعادة تصديرها إلى المجر، وبولنيا، والسويد، والبندقية، وغيرها من المدن الأوروبية.