المدارس الفكرية في الاسلام
امتداد الفكر الإسلامي وتطوره
بخروج العرب المسلمين من شبه الجزيرة العربية ، في حركة الفتوح الكبرى ، أخذت الحضارة الإسلامية تدخل
مرحلة جديدة تتصف بالنمو التدريجي الذي أوصلها إلى مرحلة الازدهار . وهنا علينا أن نتذكر أن حركة الفتوح
الإسلامية لم تقتصر على خروج الفاتحين ، وإنما صحبها خروج قبائل وعشائر عدیدة بنسائهم وأطفالهم إلى البلاد
المفتوحة، وهو ما أعطاها طابعًا اجتماعیًّا حضاریًّا واضحًا.
وتحت مظلة الإسلام ، وبهدي من تعاليمه ومبادئه ، لاسيَّما العدل والتسامح والحث على طلب العلم النافع ،
اقترب المسلمون من الحضارات الأخرى في البلاد التي فتحوها ، فاقتبسوا منها ما لا يتعارض مع روح الإسلام
وفکره وتعالیمه.
ويعد نزول القرآن الكريم نقطة البداية بالنسبة للفكر الإسلامي ، وذلك بما يحويه من نظرة حضارية إلى الإنسان والكون وطبيعة الحياة ، فضلاً عن التشريعات التي تستهدف الرقي بالإنسان خلقیًّا وفکریًّا وروحیًّا .
وقد وجدت مجموعة من المقومات ساعدت على نمو الفكر الإسلامي وظهور المدارس الفكرية ،
ومن أبرزها :
١ – الإسلام يرسِّخ القيم الفكرية
كانت دعوة القرآن الكريم للإنسان لاستخدام ملكاته الفكرية دعوة صريحة لا تقبل التأويل ، فالتفكير في نظر الإسلام يعد واجبًا دينيًّا وفريضةً إسلامية. ومن يتأمل الخطاب القرآني في الدعوة إلى التفكر والتعقل يجد أنه ينزل في نفوس المؤمنين منزلة الأمر، فالمسألة إذن مسألة فريضة وتكليف . كما نجد أن الإسلام يحذر من معوقات التفكير العلمي السليم، ويدعو إلى تلمس الدليل وإقامة الحجة .
وحرص الإسلام على ممارسة العقل لوظائفه التي أرادها الله، بإزالة كل العوائق التي تعترض نشاطاته. ويتجلى ذلك بوضوح من رفض الإسلام للتبعية الفكرية والتقليد الأعمى، وتهيئة الحرية المسؤولة والمناخ الحقيقي الذي يستطيع فيه المسلم أن يفكر ويتأمل ويعي ويفهم.
إن الحرية الواعية هي الأساس الذي تركز عليه الأخلاق ، فلا تنهض الأمة إلا إذا كانت تشريعاتها تحمي قيم العدالة والحرية، وتنمي الشعور بالمساواة بين أفراد المجتمع، ويكون لها من العلاقة بينها وبين نفوس الناس ما يدفعهم إلى التمسك بها والدفاع عنها .
٢ – الإسلام دين الوسطية
تتجلى وسطية الإسلام في جمعه بين الأصالة والمعاصرة وتميزه بالثبات والمرونة، ووضع الضوابط للاجتهاد في النوازل ، واستيعاب المستجدات والمتغيرات ، فهو بثوابته وأصوله يستطيع التكيف ومواجهة التطور بلا جمود ولا تحجر ، بل يبني الحياة على القواعد الشرعية التي تستجيب لحاجات الأمة في مختلف الظروف والأحوال، فوسطية الإسلام شاملة لكل أمور الدين والدنيا، وهذه الوسطية تعظم مسؤولية الأمة الإسلامية ودورها العالمي .
وتنطلق هذه الوسطية من فكر الرسول المستمد من الوحي، فهو يمثل في شتى وجوهه الحرية والشورى والمساواة، ويمثل الحق والعدل والإخاء، ويحارب الطغيان والفساد والانحلال، ويدعو إلى حمل المسؤولية ونشر العلم والعمران والحضارة في الأرض . وهو فكر حرر الحياة من نظام الرق والإقطاع والوحشية والجاهلية الأولى، ونقلها إلى عهود جديدة من المعرفة والحضارة .
٣- ظهور المدن الإسلامية كمراكز للنهضة الفكرية
نتج عن اتساع الدولة الجديدة ظهور مدن أصبحت بمثابة الحواضر للفكر الإسلامي ومراكز إشعاع لحضارته، ولذا فقد مثَّلت المدينة المنورة حاضنة الحضارة الإسلامية، كما شهدت دمشق دور النشأة، ثم جاء الازدهار في الكوفة والبصرة والفسطاط ، تلتها بغداد وقرطبة والقاهرة . وفي عمان كانت نزوى والرستاق وصحار مراكز فكرية احتضنت الكثير من العلماء. وكل مركز من هذه المراكز كان بمثابة القلب لدائرة واسعة استوعبت داخل محيطها عددًا كبيرًا من البلاد والمدن .
وأطلق المسلم، في ظل حضارته الجديدة ، العنان لفكره، بحيث تمكن من التمتع بقدر من حرية الفكر والعمل، مع مراعاة أن لا تخرج هذه الحرية من دائرة الإيمان أو عن حدود الأخلاق. وجاءت مرونة الفكر الإسلامي مقرونة بسِمة أصيلة من التسامح، وهو تسامح لم يقتصر على تقبل كل ما ينفع، وكل ما لا يتعارض مع أحكام الدين والعقل والأخلاق ، من عناصر الحضارات الأخرى، وإنما اتسعت دائرة أفق ذلك التسامح لتشمل أتباع الديانات الأخرى من غير المسلمين، وهو أمر تميزت به المدينة
الإسلامية عن غيرها من المدن .
ولقد تطور الفكر الإسلامي نتيجة للتفاعل الاجتماعي بين العلماء والفئات الأخرى في المجتمع. وأخذ الفقه يترسخ تدريجيا بما يتناسب وأحوال كل مدينة وحاضرة.
ظهور المدارس الفكرية واتجاهاتها
أدى اتساع الدولة في عصر الخلفاء الراشدين ، والأمويين من بعدهم، إلى دخول العديد من الثقافات والشعوب ، وانضواء العديد من الأقاليم والبلدان ضمن حدودها، وتباين العادات والأعراف، وما طرأ على الحياة من مستجدات، دفع الناس إلى الكثير من الاستفسارات والاستفتاءات، وكان له أثر على اتساع الاجتهاد وتطوره عند العلماء والفقهاء.
وبدأت النهضة الفكرية تتجه إلى جوانب الحياة كافة ، وأخذت أشكالاً دينية وتاريخية وعلمية وفلسفية ، واتجه الفقهاء والعلماء نحو القرآن الكريم والسنة النبوية ، بالإضافة إلى ما توافر لديهم من معارف جديدة، وإلى استنباط الأحكام والنظريات ليهتدوا بها في مواجهة الظروف المتجددة لمجتمعاتهم. وكان هذا أساسًا لحركة علمية واسعة فاصلة .
ولما كانت المصادر الأصلية التي اعتمد عليها العلماء والفقهاء لا تتعرض للتفاصيل والجزئيات ، وإنما وقفت في الغالب عند القواعد والمبادئ الأساسية ، تاركة التعرف على الأحكام الفرعية والتفاصيل الحياتية للمجتهدين، لاستنباط ما يساير مصالح الناس، بدأ التفاوت في الاتجاهات والآراء، في وقت كان العلماء والأئمة ينهون الناس عن التعصب لهم فيقولون:”إن قولنا رأي فمن وقف على ما هو أصح منه فهو أولى بالاتباع”.
ومثلت تلك الآراء المتباينة مدارس بحثية مميزة ، ارتبطت كل مدرسة بأسماء وأعلام، وأسست منهجها على أسس ومبادئ وأدلة وأحكام. كما ارتبطت كل مدرسة بمدينة من المدن التي احتوت على مقومات الاجتهاد ومصادر البحث. فكانت المدينة ومكة والكوفة والبصرة أهم تلك المدن كمراكز فكرية لاسيّما في مرحلة صدر الإسلام فظهرت مدارس علمية وفقهية أبرزها:
أولاً: مدرسة الحديث في المدينة
تعد المدينة المنورة من أهم المراكز العلمية في بداية الدولة الجديدة ، فهي عاصمة الدولة ، وبها أهم رجالاتها ، وشهدت أهم أحداث التاريخ ، ومقصد الإسلام، ومركز القرار . وقد فاقت مدن الحجاز الأخرى مثل: مكة، وأصبحت أغزر علمًا، وأبعد شهرة ، ومركز علماء ذلك العصر، خاصة في التفسير والحديث والفقه والتاريخ.
وارتبطت المدينة بأشهر الصحابة والتابعين الذين تمكنوا من تكوين مدرسة علمية خاصة في الفقه والتي استندت إلى رواية الحديث إلى جانب القرآن الكريم، عرفت بالمدرسة الفقهية الأولى . وعملوا على ربط الحياة وجوانبها وفق قواعد ومبادئ القرآن الكريم والسنة، ولذلك عرفت بمدرسة الحدیث.
من أبرز علماء مدرسة المدينة :
عبد الله بن عباس،وعبد الله بن عمر، وسعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير ،وخارجة بن زيد بن ثابت.
ثانيًا: مدرسة الرأي في الكوفة
يعد عمر بن الخطاب مؤسس هذه المدرسة، وسار على نهجه عدد من الصحابة ، وقد غلب هذا الاتجاه في مدينة الكوفة التي أصبحت فيما بعد أهم مراكزه.
ولم تكن غلبة الرأي على أهل الكوفة راجعة إلى تعصب وإنما إلى ظروف البيئة والحياة الجديدة خارج الحجاز، وكذلك إلى منهج العالم في البحث ومحاولات الاستنباط . وأصبح يطلق على الكوفيين أنهم أهل الرأي ، وقد قوي هذا الاتجاه على يد أبي
حنيفة النعمان ، فيما بعد ، وقال أبو حنيفة: “علمنا هذا رأي، وهو أحسن ما قدرنا علیه، فمن کان علی غير ذلك فله رأيه ولنا ما رأینا”.
الكوفة : أسسها سعد بن أبي وقاص عام ١٧هـ بأمر الخليفة عمر بن الخطاب وأصبحت مع البصرة أهم المراكز
الإسلامية حتى العصر العباسي. وقامت بها مدرسة الرأي ومن أبرز علماء هذه المدرسة : السيدة عائشة ، وعبدالله بن
مسعود، وزيد بن ثابت.
تطوُّر المدارس الفكرية
في ظل اتساع الدولة ، وتعدد البيئات الاجتماعية والثقافات، وتطور نظم الحياة، ظهر التقارب بين العديد من العلماء للأخذ بمنهج المدرستين ” الحديث والرأي “؛ وعلى الرغم من اجتماع علماء هاتين المدرستين على أسس ثابتة ،وهما الكتاب والسنة ، إلا أنهم توسعوا في الرأي والقياس والاستحسان .
وتعد البصرة وغيرها من الأمصار الجديدة في الدولة أهم البيئات التي تبلور فیها منهج جدید يأخذ بالحديث والرأي . لا سيما بعد ظهور طبقة من التابعين أخذت العلم عن كبار الصحابة بغضِّ النظر عن منهج كل منهم ، كما أن هذه الطبقة عاشت في مجتمعات جديدة في تركيبها وحرکتها .
أخذ العلماء في الاجتهاد منذ القرن الهجري الأول، وواجهوا واقع مجتمعاتهم وسائليهم فنظروا في دلالة النصوص، وقاسوا واستحسنوا وراعوا المصالح وعملوا على سد الذرائع ، فاتسع نطاق الاجتهاد. وساعد على ذلك تطور حركة الحياة وحيوية المجتمع الجديد ، بحيث أصبحت منظومة الحياة الاجتماعية متسقة مع جوانب الحياة الأخرى ، وانصهرت الأقاليم في دولة واحدة ، وانتقل طلاب العلم من إقليم إلى آخر لتعرف ما عند الآخرين والإفادة منه .
ولما بدأ الضعف والتفكك السياسي يدبَّان في جسم الدولة الإسلامیة ، وانقسمت إلی دویلات وإمارات،انعكس ذلك على
حر کة التجدید والاجتهاد ، وساد في تلك الفترة تعصب فكري وابتعاد عن الاجتهاد والتطور البناء كما جاء في الإسلام.
اتفق المجتهدون من العلماء والفقهاء على قواسم مشتركة في مهمتهم وآرائهم وهي:
الالتزام بالمصادر من القرآن الكريم والسنة ثم الإجماع. وكانت هناك آداب تسود العلاقة بين العلماء والمجتهدين تتمثل في احترام آراء بعضهم بعضًا، والتسامح، واحترام آراء الآخرين، فكان الإمام جابر بن زيد يقول: “أحسن إلى من أساء إليك”.