التراث العالمي بين الهوية الوطنية والمسؤولية العالمية
التراث .. والهوية الوطنية للشعوب:
يتفق الكثيرون أن التراث هو بحق هوية الشعوب، باعتباره يجسد الحكاية الحضارية للشعب. ويعرض التراث صورة تفصيلية عن نمطية الحياة التي كان يعيشها الإنسان في حقبة تاريخية معينة بكل ما فيها من عادات وتقاليد، ولغة وقيم ومبادئ، ومفاهيم دينية، وعلاقات اجتماعية، وما استخدمه من أدوات في الزراعة والصناعة والتجارة، وكيفية التأقلم مع من كان حوله من المخلوقات الأخرى وثقافته التي كانت سائدة في تلك الفترة.
ولكل دولة في العالم ثقافة معينة تنطلق منها وتعبر بها عن حياتها وطريقة معيشتها مهما اختلفت اللغة أو الديانة أو العادات
أو التقاليد مع اختلاف المسافات من بلد إلى آخر، وبالتالي تبقى الثقافة الرابطة التي تجمع أفراد الشعب الواحد وتحدد هويته
وأصالته ومبادئه. كما أن تراث أي دولة يؤصل هوية الشعب ويعززها ويعمق جذورها، ويعرف الناس والأجيال القادمة بعراقة
تلك الدولة من خلال قصة حضارتها المتمثلة في روعة الموروث الحضاري، لذا فإن أي شعب يفقد تراثه ولا يعمل على المحافظة عليه سیفقد هویته لا محالة.
فالتراث يحافظ على الهوية الوطنية ويعمل على صيانتها وإحيائها، وذلك من خلال الاهتمام بالمخزون الحضاري والعناية بالمناطق والمعالم الأثرية التاريخية. والحفاظ على العمارة والفنون والحرف التقليدية والمأثورات الشعبية، وغيره من الموروث التاريخي والثقافي، يعمل بدوره على تعريف الأجيال بتراث بلادها وحضارتها، ويعمّق لديها الشعور بالانتماء إلى
الأوطان .
ومن أجل الحفاظ على هذا الموروث المتنوع قام كثير من الدول – ومن بينها سلطنة عُمان – بوضع البرامج والخطط من أجل ترميم وصون المواقع الأثرية والاهتمام بالمعالم التاريخية، كما أنشأت مؤسسات خاصة لحفظ التراث والثقافة، وأقامت المكتبات وصانت المخطوطات والكتب والمطبوعات بشتى الوسائل والتقنيات الحديثة.
مواقع التراث العالمي … والهوية
ترتبط مواقع التراث العالمي بهويات الشعوب أفرادا أو جماعات، حيث إنها تحدد أصول الناس وأعراقهم وأسلوب
حياتهم وعاداتهم ومعتقداتهم والأمثلة على ذلك كثيرة ومنها :
آثار زيمبابوي الكبرى: التي تعد دليلاً فريدا على حضارة وأصل قبائل شونا وحضارتها بين القرنين الحادي عشر والخامس عشر الميلاديين، وكانوا يعملون في التجارة حيث إن مدنهم كانت من أشهر المراكز التجارية في العصور الوسطى.
ضريح أول أباطرة أسرة آن كين بالصين : الذي وحد البلاد ومات عام ٢١٠ ق.م ودفن حوله المحاربون مع جيادهم وعرباتهم
وأسلحتهم القيادية، وما يميز المقبرة أنه توجد بها آلاف من تماثيل الجنود مصنوعة من الفخار، وكذلك تماثيل لحيوانات ووحوش ضخمة يعتقد أنها تحمي الإمبراطور في قبره. ويظهر الموقع عظمة المدينة وأهميتها تاريخيًّا.
حضارة المايا : من أقدم الحضارات وأعرقها في أمريكا الوسطى، حيث قامت عام ٢٥٠م واستمرت حتى أواخر القرن السابع
عشر الميلادي. اشتهر أهل المايا ببناء المباني من المعابد والأهرامات والتماثيل الضخمة باستخدام الأحجار الجيرية
المنقوشة التي بها الرسومات الفنية الرائعة، وكانوا بارعين في علم الفلك والرياضيات.
مسرح إبيدورس : من أكبر المسارح في اليونان القديمة وأشهرها يقع في مدينة أثينا الحالية، بني في القرن الرابع قبل الميلاد، ويتسع لـ١٤٠٠٠ مشاهد، وقد استغل انحدار المنطقة التي يقع فيها المسرح لعمل المدرجات، وأهم المناشط التي تقام فيه هي المسرحيات الأسطورية، وعروض الفرق الموسيقية وإلقاء القصائد الشعرية.
تمثال الحرية : يقع في مدينة نيويورك بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو هدية من الشعب الفرنسي إلى الشعب الأمريكي عام ١٨٨٤م بمناسبة الذكرى المئوية لإعلان استقلال أمريكا، وقد وصل التمثال إلى میناء نيويورك في عام ١٨٨٥م.
والتمثال عبارة عن امرأة تحمل في يدها اليمنى شعلة تضاء في المساء بواسطة مصابيح كبيرة من الزئبق، وفي اليد اليسرى تحمل لوحة مكتوبا عليها ٤ يوليو ١٧٧٦م وهو تاريخ استقلال أمريكا عن بريطانيا، أمًّا على رأسها فهي ترتدي تاجا مكونا من ٧ أسنة ترمز إلى المحيطات السبعة في العالم.
قبرتاج محل: ومعناه ((تاج القصر))، يقع في جمهورية الهند، بناه الإمبراطور شاه جاهان بعد وفاة زوجته ممتاز محل التي كان يحبها حبّا كثيرا وفاءً وعرفانا لها، وذلك عام ١٦٣١م، وقد استمر بناؤه عشرين عاما، وهو مبني من حجر الرخام ومرصع بالأحجار الكريمة مثل الياقوت الأزرق واللؤلؤ والماس. وما يميزه أن نصف المبنى هو صورة طبق الأصل للنصف الآخر.
الحاجز المرجاني الكبير: يعد من أكثر مناظر أستراليا روعة، يقع تحت أمواج المحيط حيث تتكاثر فيه ملايين المخلوقات البحرية وتتراوح ألوانها بين الأخضر الفاتح والقرمزي المتوهج لتشكل المظهر الطبيعي الحي والأضخم في العالم. ويشتمل هذا الحاجز على ٤٠٠ نموذج مختلف من المرجان، ويمتد مسافة ٢٠٠٠ كم من الحدائق المدارية المغمورة بالماء التي تتناثر بينها مئات من الجزر تسمى جزر المنتجعات. ولقد أعلنت الحكومة الأسترالية في عام ١٩٧٥م أن هذا الحاجز العملاق هو حديقة بحرية وطنية .
شلالات نياجرا: وهي من أشهر الآثار الطبيعية في العالم، التي تعترض مجرى نهر ((سانت لورانس)) وتنقسم إلى قسمين: الأول يعرف بشلال نياجرا الأمريكي ويبلغ ارتفاعه ٥٤ مترا وعرضه ٣٠٥ أمتار، والثاني شلال نیاجرا الکندي ویبلغ ارتفاعه ٥١ مترا وعرضه ٧٩٢ مترا. وفي نهاية الشلالات بحوالي خمسة كيلومترات توجد دوامة تندفع إليها مياه الشلال بشكل قوي، ويقوم ما يقرب من ١٠ ملايين سائح بزيارة شلالات نياجرا سنويّا، وتقوم الحكومتان الأمريكية والكندية باستغلال مياهه في المصانع
وتوليد الطاقة الکھربائیة.
التراث .. والمسؤولية العالمية
إن الأعداد الكبيرة التي تشملها قائمة التراث العالمي ذات أهمية بالغة على كافة الأصعدة الداخلية والخارجية، ولكن هناك بعض المواقع الأثرية المهمة الأخرى تتعرض لكثير من المخاطر سواء المخاطر الإنسانية أو الطبيعية، مثل هياكل أنجكور في كمبوديا، وجزر الجالاباجوس في الإكوادور، ووادي كاتماندو في النيبال، ومحمية بلوستون في الولايات المتحدة الأمريكية، والمواقع الأثرية في البيرو، وهي جميعها تعاني من التخريب والضياع. ومن أبرز الأخطار التي تهدد التراث العالمي:
التلوث : من خلال رمي المخلفات القريبة أو في الأماكن التراثية أو حرق الغابات.
السرقة : سرقة الأدوات الأثرية النادرة من التراث الثقافي أو الطبيعي.
الحروب: وهي من أسوأ الأخطار التي تهدد التراث العالمي، وكانت آثار مدينة موستار بكرواتيا من ضحايا الحروب البلقانية.
السياحة العشوائية : وهي تؤثر على المواقع الأثرية نتيجة قيام الشُيَّاح بالمشي العشوائي على هذه الأمكنة أو تخريب بعض
أجزائها نتيجة قلة الوعي بأهميتها، وبالتالي قلة الشعور بحجم المسؤولية، وخاصة للمناطق الأثرية التي تدر على مواطنيها دخلاً دائما مثل بحيرة البندقية الشاطئية ومدينة ماتشوبيتشو في البيرو وأهرام مصر وسور الصين وآثار حضارة المايا في المكسيك وآثار البتراء الأردنية.
الكوارث الطبيعية : كما هو الحال في جمهورية تنزانيا المتحدة حيث تتعرض محمية نجورو نجورو التي تحتوي على كثير من
الحيوانات البرية في العالم، وخاصة الغزلان والبقر الوحشي التي تناقصت بنسبة ٢٥٪ حيث تراجع عددها من ٢٥ ألفًا إلى ١٩
ألفًا، بسبب ثوران بعض البراكين هناك. وكذلك في البيرو فإن مدينة ((ماتشو بيتشو)) الأثرية مهددة بالتقلبات المناخية الناتجة عن ظاهرة النينو، وبعضها تهددها المباني والمدن الحديثة فتلحق بها أضرارا جسيمة كما في قصر الدالاي لاما فى هضبة التبت بالصین.
ويعد صون التراث وحفظه مسؤولية جماعية تبدأ من البيت وتنتهي بالعالم، فالمواقع التراثية هي وثيقة مهمة لأنشطة الإنسان القديم وأسلوب حياته وتطورها في جميع المجالات.
ومن أجل تحقيق المسؤولية لحماية المواقع الأثرية فإنه لا بد من اتخاذ الخطوات الآتية :
تحديد المواقع الأثرية والتعريف بخصائصها وأهميتها الإنسانية.
عمل قوائم بالمواقع الأثرية، وتدوینها تاریخیًا.
تحديد المواقع المتضررة وأسباب تلفها من أجل ترميمها.
تشجيع المؤسسات والأفراد على المشاركة في حفظ التراث وصونه. وتعد اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي الصادرة عن منظمة اليونسكو مسؤولية دولية للحفاظ على التراث وحمايته من الاندثار والانتهاء.
وهناك الكثير من المنظمات والمراكز المعنية بزيادة توعية الأجيال بصون التراث الثقافي منها المجلس الوزاري الأوروبي الذي يشجع التعليم في مجال التراث، ومدرسة التراث الأفريقي، ومنظمة التراث الأفريقي، ومنظمة التراث الإنجليزي، وصندوق البيئة الإيطالي.